وَكَذَا قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَمُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مِنَ التَّابِعِينَ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا يَصِحُّ عَنْ مُطَرِّفٍ، وَأَمَّا ابْنُ قُتَيْبَةَ فَلَيْسَ هُوَ مِمَّنْ يُعَرَّجُ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا، قَالَ: وَنَقَلَهُ ابْنُ خُوَيْزِمَنْدَادَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَالْمَعْرُوفُ عَنْهُ مِثْلُ الْجُمْهُورِ.
وَنَقَلَ الْبَاجِيُّ هَذَا التَّفْسِيرَ عَنِ الدَّاوُدِيِّ وَقَالَ: لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ قَالَهُ إِلَّا بَعْضَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ الْمُنَجِّمِينَ، وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ رَجَعَ إِلَى الرُّؤْيَةِ وَلَمْ يَعْتَدَّ بِمَا صَامَ عَلَى الْحِسَابِ، فَإِنِ اقْتَضَى ذَلِكَ قَضَاءَ شَيْءٍ مِنْ صَوْمِهِ قَضَاهُ.
وَسَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ الْمُنْذِرِ؛ فَقَالَ: صَوْمُ يَوْمِ الثَلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ إِذَا لَمْ يَرَ الْهِلَالَ مَعَ الصَّحْوِ لَا يَجِبُ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَرَاهَتُهُ هَكَذَا أُطْلِقَ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ حَاسِبٍ وَغَيْرِهِ، فَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا كَانَ مَحْجُوجًا بِالْإِجْمَاعِ قَبْلَهُ.
وَنَقَلَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ قَوْلَهُ: " فَاقْدُرُوا لَهُ " خِطَابٌ لِمَنْ خَصَّهُ اللَّهُ بِهَذَا الْعِلْمِ.
وَأَنَّ قَوْلَهُ {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة: ١٨٥] (سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ ١٨٥) خِطَابٌ لِلْعَامَّةِ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَصَارَ وُجُوبُ رَمَضَانَ عِنْدَهُ مُخْتَلِفُ الْحَالِ؛ يَجِبُ عَلَى قَوْمٍ بِحِسَابِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَعَلَى آخَرِينَ بِحِسَابِ الْعَدَدِ، وَهَذَا بَعِيدٌ عَنِ النُّبَلَاءِ، انْتَهَى. بَلْ هُوَ تَحَكُّمٌ مَحْجُوجٌ بِالْإِجْمَاعِ.
وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: مَعْرِفَةُ مَنَازِلِ الْقَمَرِ هُوَ مَعْرِفَةُ سَيْرِ الْأَهِلَّةِ، وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْحِسَابِ فَأَمْرٌ دَقِيقٌ يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ آحَادٌ، فَمَعْرِفَةُ مَنَازِلِ الْقَمَرِ تُدْرَكُ بِأَمْرٍ مَحْسُوسٍ يُدْرِكُهُ مُرَاقِبُ النُّجُومِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَقَالَ بِهِ فِي حَقِّ الْعَارِفِ بِهَا فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَنَقَلَ الرُّويَانِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِوُجُوبِهِ بَلْ بِجَوَازِهِ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: احْتَجَّ مَنْ قَالَ مَعْنَاهُ بِحِسَابِ الْمُنَجِّمِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: ١٦] (سُورَةُ النَّحْلِ: الْآيَةُ ١٦) وَالْآيَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِاهْتِدَاءِ فِي السَّيْرِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، قَالُوا: وَلَا يَصِحُّ أَنَّ الْمُرَادَ حِسَابُ الْمُنَجِّمِينَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَوْ كُلِّفُوا ذَلِكَ لَشَقَّ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفَهُ إِلَّا أَفْرَادٌ، وَالشَّرْعُ إِنَّمَا يُكَلِّفُ النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُهُ جَمَاهِيرُهُمْ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَقَالِيمَ عَلَى رَأْيِهِمْ مُخْتَلِفَةٌ، وَيَصِحُّ أَنْ يُرَى فِي إِقْلِيمٍ دُونَ آخَرَ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى اخْتِلَافِ الصَّوْمِ عِنْدَ أَهْلِهَا مَعَ كَوْنِ الصَّائِمِينَ مِنْهُمْ لَا يَصُومُونَ عَلَى طَرِيقٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُ قَوْمًا مَا ثَبَتَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، وَالشَّهْرُ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ مَقْطُوعٌ بِهِ لِقَوْلِهِ: " «الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ فَإِنَّ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ» " فَالتِّسْعُ وَعِشْرُونَ مَقْطُوعٌ بِهَا، وَإِنَّ غُمَّ كَمُلَ ثَلَاثِينَ وَهِيَ غَايَتُهُ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: عَدَمُ الْبِنَاءِ عَلَى حِسَابِ الْمُنَجِّمِينَ؛ لِأَنَّهُ حَدْسٌ وَتَخْمِينٌ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْهُ مَا يُعْرَفُ بِهِ الْقِبْلَةُ وَالْوَقْتُ، قَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ، وَلَا يَوْمِ الثَلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ عَنْ رَمَضَانَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ الثَلَاثِينَ لَيْلَةَ غَيْمٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْلَمَةَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا، عَنْ مَالِكٍ بِهِ.