فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الْإِشْهَادِ فِي الْوَصِيَّةِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ذَكَرَ الْكِتَابَةَ مُبَالَغَةً فِي زِيَادَةِ التَّوَثُّقِ وَإِلَّا فَالْوَصِيَّةُ الْمَشْهُودُ بِهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مَكْتُوبَةً اهـ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَالْعُتْبِيَّةِ: إِذَا وُجِدَتْ وَصِيَّةٌ بِخَطِّ الْمَيِّتِ مِنْ غَيْرِ إِشْهَادٍ وَعُلِمَ أَنَّهَا خَطُّهُ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْهَا ; لِأَنَّهُ قَدْ يَكْتُبُ وَلَا يَعْزِمُ، وَاحْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَعَ ظَاهِرِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَدَاوُدُ وَآخَرُونَ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى اسْتِحْبَابِهَا حَتَّى نَسَبَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِلَى الْإِجْمَاعِ سِوَى مَنْ شَذَّ، وَأَجَابُوا عَنِ الْآيَةِ بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَعَنِ الْحَدِيثِ بِأَنَّ الْمُرَادَ مَا حَقُّ الْجَزْمِ وَالِاحْتِيَاطِ لِأَنَّهُ قَدْ يَفْجَأُهُ الْمَوْتُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ وَصِيَّةٍ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَغْفَلَ عَنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ، وَبِهَذَا أَجَابَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْحَقُّ لُغَةً الشَّيْءُ الثَّابِتُ، وَيُطْلَقُ شَرْعًا عَلَى مَا ثَبَتَ بِهِ الْحُكْمُ، وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْمُبَاحِ أَيْضًا لَكِنْ بِقِلَّةٍ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، قَالَ: فَإِنِ اقْتَرَنَ بِهِ عَلَى أَوْ نَحْوُهَا كَانَ ظَاهِرًا فِي الْوُجُوبِ وَإِلَّا فَهُوَ عَلَى الِاحْتِمَالِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا حُجَّةَ فِي الْحَدِيثِ لِلْوُجُوبِ، بَلِ اقْتَرَنَ هَذَا الْحَقُّ بِمَا يَدُلُّ عَلَى النَّدْبِ وَهُوَ تَفْوِيضُهُ الْوَصِيَّةَ إِلَى إِرَادَةِ الْمُوصِي فِي رِوَايَةِ " لَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ "، فَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمَا عَلَّقَهَا بِإِرَادَتِهِ.
وَأَمَّا رِوَايَةُ " لَا يَحِلُّ " فَيَحْتَمِلُ أَنَّ رَاوِيهَا ذَكَرَهَا بِالْمَعْنَى، وَأَرَادَ بِنَفْيِ الْحِلِّ ثُبُوتَ الْجَوَازِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ الَّذِي يَدْخُلُ تَحْتَهُ الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ وَالْمُبَاحُ، وَأَجَابَ أَبُو ثَوْرٍ بِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ يَخْتَصُّ بِمَنْ كَانَ عَلَيْهِ حَقٌّ شَرْعِيٌّ يُخْشَى ضَيَاعُهُ عَلَى صَاحِبِهِ إِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ كَوَدِيعَةٍ وَدَيْنٍ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لِآدَمِيٍّ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ " لَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ " ; لِأَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى قُدْرَتِهِ عَلَى تَنْجِيزِهِ وَلَوْ كَانَ مُؤَجَّلًا، فَإِذَا أَرَادَ ذَلِكَ سَاغَ لَهُ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُوصِيَ بِهِ سَاغَ لَهُ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَجِبُ لِعَيْنِهَا وَإِنَّمَا تَجِبُ لِعَيْنِ الْخُرُوجِ مِنَ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ لِلْغَيْرِ بِتَنْجِيزٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، وَمَحِلُّ وُجُوبِهَا إِذَا عَجَزَ عَنْ تَنْجِيزِ مَا عَلَيْهِ وَكَانَ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَثْبُتُ الْحَقُّ بِشَهَادَتِهِ، فَإِنْ قَدَرَ أَوْ عَلِمَ غَيْرُهُ فَلَا وُجُوبَ، فَعُلِمَ أَنَّهَا قَدْ تَجِبُ وَقَدْ تُسْتَحَبُّ لِمَنْ رَجَا مِنْهَا كَثْرَةَ الْأَجْرِ، وَقَدْ تُكْرَهُ فِي عَكْسِهِ وَتُبَاحُ فِيمَا اسْتَوَى الْأَمْرَانِ فِيهِ، فَتُحَرَّمُ كَمَا إِذَا كَانَ فِيهَا إِضْرَارٌ لِحَدِيثِ الْإِضْرَارِ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَبَعًا لِغَيْرِهِ، رَفَعَهُ بِرِجَالٍ ثِقَاتٍ وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْهُ مَوْقُوفًا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَاحْتَجَّ ابْنُ بَطَّالٍ تَبَعًا لِغَيْرِهِ بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يُوصِ فَلَوْ وَجَبَتْ لَمَا تَرَكَهَا، وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِمَا رَوَى لَا بِمَا رَأَى. عَلَى أَنَّ الثَّابِتَ عَنْهُ فِي مُسْلِمٍ: لَمْ أَبِتْ لَيْلَةً مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا وَوَصِيَّتِي مَكْتُوبَةٌ عِنْدِي. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ إِنَّهُ لَمْ يُوصِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute