إِنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ جَائِزَيْنِ، لَكِنْ إِذَا حُمِلَ عَلَى مَا يُفْضِي إِلَى الْإِثْمِ أَمْكَنَ ذَلِكَ بِأَنْ يُخَيِّرَهُ بَيْنَ أَنْ يَفْتَحَ عَلَيْهِ مِنْ كُنُوزِ الْأَرْضِ مَا يَخْشَى مِنَ الِاشْتِغَالِ بِهِ إِلَّا أَنْ يَتَفَرَّغَ لِلْعِبَادَةِ مَثَلًا وَبَيْنَ أَنْ لَا يُؤْتِيَهُ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا الْكَفَافَ فَيَخْتَارَ الْكَفَافَ، وَإِنْ كَانَتِ السَّعَةُ أَسْهَلَ مِنْهُ، وَالْإِثْمُ عَلَى هَذَا أَمْرٌ نِسْبِيٌّ لَا يُرَادُ مِنْهُ مَعْنَى الْخَطِيئَةِ لِثُبُوتِ الْعِصْمَةِ لَهُ انْتَهَى.
وَمِثْلُهُ غَيْرُهُ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْمُجَاهَدَةِ فِي الْعِبَادَةِ وَالِاقْتِصَادِ فِيهَا، فَإِنَّ الْمُجَاهَدَةَ إِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ تَجُرُّ إِلَى الْهَلَاكِ لَا تَجُوزُ.
( «وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ» ) أَيْ: خَاصَّةً فَلَا يَرِدُ أَمْرُهُ بِقَتْلِ ابْنِ خَطَلٍ وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ كَانَ يُؤْذِيهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ ذَلِكَ يَنْتَهِكُونَ حُرُمَاتِ اللَّهِ، وَقِيلَ: إِرَادَةُ لَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ إِذَا أُوذِيَ فِي غَيْرِ السَّبَبِ الَّذِي يَخْرُجُ إِلَى الْكُفْرِ كَمَا عَفَا عَنِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي جَفَا فِي رَفْعِ صَوْتِهِ عَلَيْهِ، وَعَنِ الْآخَرِ الَّذِي «جَبَذَ بِرِدَائِهِ حَتَّى أَثَّرَ فِي كَتِفِهِ، وَقَالَ: مُحَمَّدُ أَعْطِنِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ» كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ.
وَفِي أَبِي دَاوُدَ: «ثُمَّ دَعَا رَجُلًا فَقَالَ: احْمِلْ لَهُ عَلَى بَعِيرَيْهِ هَذَيْنِ: عَلَى بَعِيرٍ تَمْرًا وَعَلَى الْآخَرِ شَعِيرًا» .
( «إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ» ) بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَالْهَاءِ، أَيْ: لَكِنْ إِذَا انْتُهِكَتْ (حُرْمَةُ اللَّهِ) عَزَّ وَجَلَّ (فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ) لَا لِنَفْسِهِ مِمَّنِ ارْتَكَبَ تِلْكَ الْحُرْمَةَ (بِهَا) أَيْ: بِسَبَبِهَا.
وَلِلطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَنَسٍ: " «فَإِذَا انْتُهِكَتْ حُرْمَةُ اللَّهِ كَانَ أَشَدَّ النَّاسِ غَضَبًا لِلَّهِ» ".
قَالَ الْبَاجِيُّ: يُرِيدُ أَنْ يُؤْذَى أَذًى فِيهِ غَضَاضَةٌ عَلَى الدِّينِ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ انْتِهَاكًا لِحُرْمَةِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمُ بِذَلِكَ إِعْظَامًا لِحَقِّ اللَّهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْذَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِعْلٍ مُبَاحٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنَ النَّاسِ فَيَجُوزُ أَنْ يُؤْذَى بِمُبَاحٍ، وَلَيْسَ لَهُ الْمَنْعُ مِنْهُ وَلَا يَأْثَمُ فَاعِلُهُ، وَإِنْ وَصَلَ بِذَلِكَ إِلَى أَذَى غَيْرِهِ، وَلِذَا لَمْ يَأْذَنْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نِكَاحِ ابْنَةِ أَبِي جَهْلٍ فَجَعَلَ حُكْمَ ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ حُكْمَهُ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُؤْذَى بِمُبَاحٍ، وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [الأحزاب: ٥٧] إِلَى أَنْ قَالَ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} [الأحزاب: ٥٨] [سُورَةُ الْأَحْزَابِ: الْآيَةُ ٥٧، ٥٨] فَشَرَطَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُؤْذُوا بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا، وَأَطْلَقَ الْأَذَى فِي خَاصَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ انْتَهَى.
وَحَمَلَ الدَّاوُدِيُّ عَدَمَ انْتِقَامِهِ لِنَفْسِهِ عَلَى مَا يُخْتَصُّ بِالْمَالِ.
وَأَمَّا الْعِرْضُ فَقَدِ اقْتَصَّ مِمَّنْ نَالَ مِنْهُ قَالَ: فَاقْتَصَّ مِمَّنْ لَدَّهُ فِي مَرَضِهِ بَعْدَ نَهْيِهِ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ أَمَرَ بِلَدِّهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا نَهْيَهُ عَلَى عَادَةِ الْبَشَرِ مِنْ كَرَاهَةِ النَّفْسِ لِلدَّوَاءِ.
قَالَ الْحَافِظُ: كَذَا قَالَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِإِسْنَادٍ مُطَوَّلًا، وَأَوَّلُهُ: " «مَا لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْلِمًا بِذِكْرِ اسْمِهِ» ، أَيْ: بِصَرِيحِهِ «وَلَا ضَرَبَ بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ إِلَّا أَنْ يَضْرِبَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ،