دُمُوعِهِ لَمْ يُعَذَّبْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
(وَرَجُلٌ دَعَتْهُ) ، أَيْ طَلَبَتْهُ، وَبِهِ عُبِّرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: (ذَاتُ) بَيَّنَ الْمَوْصُوفَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَأَحْمَدَ فَقَالَ: امْرَأَةٌ ذَاتُ (حَسَبٍ) ، أَيْ أَصْلٍ أَوْ مَالٍ ; لِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: ذَاتُ مَنْصِبٍ، أَيْ أَصْلٍ أَوْ شَرَفٍ، (وَجَمَالٍ) ، أَيْ مَزِيدِ حُسْنٍ، زَادَ فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: إِلَى نَفْسِهَا.
وَلِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " فَعَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ "، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا دَعَتْهُ إِلَى الْفَاحِشَةِ، وَبِهِ جَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهَا دَعَتْهُ إِلَى التَّزْوِيجِ بِهَا، فَخَافَ أَنْ يَشْتَغِلَ عَنِ الْعِبَادَةِ بِالِافْتِتَانِ بِهَا، أَوْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ بِحَقِّهَا لِشُغْلِهِ بِالْعِبَادَةِ عَنِ التَّكَسُّبِ بِمَا يَلِيقُ بِهَا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَيُؤَيِّدُهُ الْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ إِلَى نَفْسِهَا، وَلَوْ أُرِيدَ التَّزْوِيجُ لَصَرَّحَ بِهِ.
(فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ) ، زَادَ فِي رِوَايَةٍ: " رَبَّ الْعَالَمِينَ "، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَقُولُهُ بِلِسَانِهِ، إِمَّا لِيَزْجُرَهَا عَنِ الْفَاحِشَةِ، أَوْ لِيَعْتَذِرَ إِلَيْهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقُولَهُ بِقَلْبِهِ، قَالَهُ عِيَاضٌ، وَإِنَّمَا يَصْدُرُ هَذَا عَنْ شِدَّةِ خَوْفٍ مِنَ اللَّهِ، وَمَتِينِ تَقْوَى وَحَيَاءٍ كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ ; لِأَنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْمَوْصُوفَةِ بِأَكْمَلِ الْأَوْصَافِ الَّتِي جَرَتِ الْعَادَةُ بِمَزِيدِ الرَّغْبَةِ لِمَنْ هِيَ فِيهَا، وَهُوَ الْحَسَبُ وَالْمَنْصِبُ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْجَاهِ وَالْمَالِ مَعَ الْجَمَالِ، وَقَلَّ مَنْ يَجْتَمِعُ ذَلِكَ فِيهَا مِنَ النِّسَاءِ مِنْ أَكْمَلِ الْمَرَاتِبِ، لِكَثْرَةِ الرَّغْبَةِ فِي مِثْلِهَا، وَعُسْرِ تَحْصِيلِهَا لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَغْنَتْ مِنْ مَشَاقِّ التَّوَصُّلِ إِلَيْهَا بِمُرَاوَدَةٍ وَنَحْوِهَا.
( «وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا» ) ، أَيْ كَتَمَهَا عَنِ النَّاسِ، وَنَكِرَهَا لِيَشْمَلَ مَا تَصَدَّقَ بِهِ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَظَاهِرُهُ يَشْمَلُ الْمَنْدُوبَةَ وَالْمَفْرُوضَةَ، لَكِنْ نَقَلَ النَّوَوِيُّ عَنِ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ إِظْهَارَ الْمَفْرُوضَةِ أَوْلَى مِنْ إِخْفَائِهَا (حَتَّى لَا تَعْلَمَ) ، بِفَتْحِ الْمِيمِ نَحْوَ: سِرْتُ حَتَّى مَغِيبِ الشَّمْسِ، وَضَمِّهَا نَحْوَ: مَرِضَ حَتَّى لَا يَرْجُونَهُ، (شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ) ، أَيْ لَوْ قَدَّرْتَ شِمَالَهُ رَجُلًا مُتَيَقِّظًا لَمَا عَلِمَ صَدَقَةَ الْيَمِينِ، ذَكَرَ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي الْإِخْفَاءِ، وَضَرَبَ الْمَثَلَ بِهِمَا لِقُرْبِهِمَا وَمُلَازَمَتِهِمَا، فَهُوَ مِنْ مَجَازِ التَّشْبِيهِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْجَوْزَقِيِّ: تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ كَأَنَّمَا أَخْفَى يَمِينَهُ مِنْ شِمَالِهِ، أَوْ مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ، أَيْ مَلَكُ شِمَالِهِ، أَوْ مَنْ عَلَى شِمَالِهِ مِنَ النَّاسِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مُجَاوِرُ شِمَالِهِ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِشِمَالِهِ نَفْسُهُ مِنْ تَسْمِيَةِ الْكُلِّ بِاسْمِ الْجُزْءِ، فَإِنَّهُ يَنْحَلُّ إِلَى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ نَفْسُهُ مَا تُنْفِقُ نَفْسُهُ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ: لَا يُرَائِي بِصَدَقَتِهِ، وَلَا يَكْتُبُهَا كَاتِبُ الشِّمَالِ.
وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى الضَّعِيفِ الْمُكْتَسِبُ فِي صُورَةِ الشِّرَاءِ لِتَرْوِيجِ سِلْعَتِهِ، أَوْ رَفْعِ قِيمَتِهَا، وَاسْتَحْسَنَهُ، قَالَ الْحَافِظُ: وَفِيهِ نَظَرٌ إِنْ أَرَادَ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ مُرَادُ الْحَدِيثِ خَاصَّةً، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا مِنْ صُوَرِ الصَّدَقَةِ الْخَفِيَّةِ فَمُسَلَّمٌ، وَوَقَعَ فِي مُسْلِمٍ: " «حَتَّى لَا تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ» "، قَالَ عِيَاضٌ: كَذَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute