وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: الْأَشْبَهُ حَمْلُهُمَا عَلَى دُخُولَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ، أَحَدِهِمَا: يَوْمَ الْفَتْحِ وَصَلَّى فِيهِ، وَالْآخَرِ: فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ، دَخَلَهَا يَوْمَ النَّحْرِ وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ، وَدَخَلَهَا مِنَ الْغَدِ وَصَلَّى فِيهِ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ نَفْيَ أُسَامَةَ عَلَى أَنَّهُ ذَهَبَ - كَمَا رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ - لِيَأْتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَاءٍ فِي الدَّلْوِ، حَتَّى يَمْحُوَ بِهِ الصُّوَرَ الَّتِي فِي الْكَعْبَةِ، فَوَقَعَتِ الصَّلَاةُ فِي غَيْبَتِهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَوَقَعَ لِلْفَخْرِ الرَّازِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ: أَنَّهُ نَازَعَ فِي خَبَرِ بِلَالٍ بِمَا يُعْلَمُ رَدُّهُ مِمَّا تَقَرَّرَ، وَلِلشَّارِحِ كَلَامٌ نَحْوَ كَلَامِهِ، وَزَعْمُهُ أَنَّ الْحَدِيثَيْنِ تَعَارَضَا، - فَيُحْمَلُ عَلَى النَّسْخِ - فِي غَايَةِ التَّهَافُتِ لِمَا مَرَّ مِنْ خَبَرِ الدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّ الْمُتَأَخِّرَ هُوَ الصَّلَاةُ فَتَكُونُ هِيَ النَّاسِخَةَ لِلنَّفْيِ اهـ.
وَفِيهِ أَنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ فِي الْأَخْبَارِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ النَّسْخَ الْمُتَعَلِّقَ بِالْحُكْمِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى فِعْلِهِ مِنَ الْجَوَازِ، وَعَلَى نَفْيِهِ عَلَى عَدَمِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ عَدَمَ صَلَاتِهِ بِالْفَرْضِ، وَالتَّقْدِيرُ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ جَوَازِهَا هَذَا وَيُسْتَفَادُ مِنْ دُخُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْكَعْبَةَ وَصَلَاتِهِ بِهَا، أَنَّهُ يُسَنُّ دُخُولُهَا، وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ الْبَيْهَقِيِّ وَقَالَ: فِيهِ مَنْ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَجَعَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ قَوْلِ مُجَاهِدٍ: مَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ دَخَلَ فِي حَسَنَةٍ وَخَرَجَ مِنْ سَيِّئَةٍ وَخَرَجَ مَغْفُورًا.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فَإِنْ قُلْتَ: زَعَمَ بَعْضُهُمْ كَرَاهَةَ دُخُولِهَا لِخَبَرِ: «صَنَعْتُ الْيَوْمَ شَيْئًا لَوْ كُنْتُ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا كُنْتُ صَنَعْتُهُ» . «قَالَتْ عَائِشَةُ: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ; قَالَ: دَخَلْتُ الْبَيْتَ وَخَشِيتُ أَنْ يَأْتِيَ الْآتِي مِنْ بَعْدِي يَقُولُ: حَجَجْتُ وَلَمْ أَدْخُلِ الْبَيْتَ، وَأَنَّهُ لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْنَا دُخُولُهُ، وَإِنَّمَا كُتِبَ عَلَيْنَا طَوَافُهُ» . قُلْتُ: الْحَدِيثُ وَإِنْ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، فِي إِسْنَادِهِ ضَعِيفٌ، عَلَى أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ لِمُطْلَقِ الْكَرَاهَةِ، بَلْ لِخُصُوصِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْحَجِّ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ.
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: يَنْبَغِي دُخُولُهُ مَرَّاتٍ. مَرَّةً يُصَلِّي فِيهِ أَرْبَعًا، وَمَرَّةً رَكْعَتَيْنِ، وَمَرَّةً يَدْعُو لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ، وَحَمَلَهَا الْمُحَقِّقُونَ عَلَى دُخُولِهِ مَرَّاتٍ، وَلِيَجْتَنِبَ دَاخِلُهُ الزَّحْمَةَ وَالْمُزَاحَمَةَ مَا أَمْكَنَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ دَاخِلِيهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ رِبْحُهُمْ أَقَلُّ مِنْ خُسْرَانِهِمْ، وَطَاعَتُهُمْ أَقَلُّ مِنْ عِصْيَانِهِمْ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَغْنَانَا مِنْ مِنَّةِ الشَّيْبِيَّةِ بِإِخْرَاجِ الْحَجَرِ مِنَ الْكَعْبَةِ الشَّرِيفَةِ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «قَالَ لِعَائِشَةَ حِينَ سَأَلَتْ دُخُولَ الْكَعْبَةِ: صَلِّي فِيهِ فَإِنَّهُ مِنْهَا» ، وَإِذَا دَخَلَهَا، فَلْيَدْخُلْ بِأَدَبٍ وَخُضُوعٍ وَخُشُوعٍ، وَيُقَدِّمُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى فِي الدُّخُولِ، وَيَدْعُو بِدَعَوَاتِ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَيُزِيدُ قَوْلَهُ: {رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} [الإسراء: ٨٠] الْآيَةَ. وَلَا يَنْظُرُ إِلَى سَقْفِهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الزِّينَةِ، فَعَنْ عَائِشَةَ: «عَجَبًا لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ إِذَا دَخَلَ الْكَعْبَةَ كَيْفَ يَدَعُ بَصَرَهُ قِبَلَ السَّقْفِ إِجْلَالًا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِعْظَامًا ; دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَعْبَةَ مَا خَلَفَ بَصَرُهُ مَوْضِعَ سُجُودِهِ، حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا» . صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَتَعَقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ بِأَنَّهُ مُنْكَرٌ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ قَالَهُ مِيرَكُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، «أَنَّهُ جَعَلَ عَمُودَيْنِ عَنْ يَسَارِهِ، وَعَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ، وَثَلَاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «عَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ، وَعَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ» . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ اهـ.
وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ نِسْبَةَ الْمُصَنِّفِ هَذِهِ لِلشَّيْخَيْنِ فِيهَا نَظَرٌ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: «ثُمَّ صَلَّى وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ، «عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْبَيْتَ مَرَّ قِبَلَ وَجْهِهِ، حَتَّى يَدْخُلَ وَيَجْعَلَ الْبَابَ خَلْفَ ظَهْرِهِ، فَيَمْشِيَ حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ الَّذِي يَلِي وَجْهَهُ حِينَ يَدْخُلُ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ، فَيُصَلِّيَ وَهُوَ يَتَوَخَّى الْمَكَانَ الذَّكِيَّ. أَخْبَرَهُ بِلَالٌ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَلَّى فِيهِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ بِلَالًا أَخْبَرَهُ، «قَالَ: صَلَّى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ مِنَ السَّطْرِ الْمُقَدَّمِ، وَجَعَلَ الْبَابَ خَلْفَ ظَهْرِهِ، وَاسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ إِلَى الْجَانِبِ الَّذِي يَسْتَقْبِلُ حِينَ يَلِجُ الْبَيْتَ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ» .
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: عُثْمَانُ الْمَذْكُورُ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَسَبَبُ وُصُولِ السِّدَانَةِ - بِكَسْرِ السِّينِ وَهِيَ خِدْمَةُ الْبَيْتِ - لَهُمْ أَنَّ جُرْهُمَ لَمَّا اسْتَخَفَّتْ بِحُرْمَةِ الْبَيْتِ شَرَّدَهُمُ اللَّهُ، وَوَلِيَتْهُ خُزَاعَةُ، ثُمَّ بَعْدَهُمْ وُلِّيَ قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ الْحِجَابَةَ وَأَمْرَ مَكَّةَ، ثُمَّ أَعْطَى وَلَدَهُ عَبْدَ الدَّارِ الْحِجَابَةَ وَهِيَ: السِّدَانَةُ، وَاللِّوَاءُ، وَدَارُ النَّدْوَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ; لِاجْتِمَاعِ النَّدَى فِيهَا وَهُمُ: الْأَشْرَافُ لِإِبْرَامِ أُمُورِهِمْ، وَأَعْطَى وَلَدَ عَبْدِ مُنَافٍ الرِّفَادَةَ وَالسِّقَايَةَ، ثُمَّ جَعَلَ عَبْدُ الدَّارِ الْحِجَابَةَ إِلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute