يَسْتَمْرِهَا النَّاسُ وَيَحْكُونَهَا فِي بُيُوتِ الْقَهْوَةِ، وَتَجُوزُ فِي عُقُولِ النِّسَاءِ وَبَعْضِ الرِّجَالِ مِمَّنْ سَخُفَ عَقْلُهُ وَسَخُفَ قَلْبُهُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ (فَقِيلَ لَهُ: مَا هُنَّ) أَيْ تِلْكَ الْكَلِمَاتُ (قَالَ أَعُوذُ بِوَجْهِ اللَّهِ الْعَظِيمِ) أَيْ ذَاتِهِ (الَّذِي لَيْسَ شَيْءٌ أَعْظَمَ مِنْهُ) وَلَا مُسَاوِيًا لِعَظَمَتِهِ وَلَا قَرِيبًا مِنْهَا بَلْ وَلَا عَظَمَةَ لِغَيْرِهِ، لِأَنَّ الْكُلَّ عَبِيدُهُ بَلْ وَلَيْسَ فِي الْكَوْنِ وُجُودٌ لِغَيْرِهِ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ صِفَةً لِلْمُضَافِ أَوِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَالْمُؤَدَّى وَاحِدٌ (وَبِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزْهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ) إِعَادَةٌ لَا لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْمُرَادُ عِلْمُ اللَّهِ الَّذِي يَنْفَدُ الْبَحْرُ قَبْلَ نَفَادِهِ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ الِاسْتِيعَابَ كَقَوْلِهِ: رَطْبٌ وَلَا يَابِسٌ، فَإِنَّ تَكْرِيرَ حَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاسْتِيعَابِ، وَأَرَادَ بِالْكَلِمَاتِ التَّامَّاتِ الْقُرْآنَ فَيُئَوَّلُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَالْمُطِيعُ وَالْعَاصِي لَا يَتَجَاوَزَانِ حَالَهُمَا وَمَا عَلَيْهِمَا مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: ١١٥] لِأَنَّ الصِّدْقَ مُلَائِمٌ لِلْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْخَبَرِ مِنَ الْقِصَصِ وَنَبَأِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مِمَّا سَبَقَ وَمِمَّا سَيَأْتِي، وَالْبَدَلُ مُوَافِقٌ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَهَذَا مِمَّا يُوجَبُ فِيهِ تَكْرِيرُ لَا وَمَعَ وُجُوبِهِ لَا يُنَافِي تَسْمِيَتَهَا مُؤَكَّدَةً، كَمَا وَقَعَ فِي كَلَامِ شَارِحٍ هُنَا كَمَا هُوَ مُحَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ مِنْ حَوَاشِي الْكَشَّافِ وَغَيْرِهَا فِي: " لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ "، " لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ "، " لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ " اهـ.
فَغَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَإِنَّ مَحَلَّ الْوُجُوبِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ إِنَّمَا هُوَ: إِذَا كَانَ الْوَصْفُ نَفْيًا بِلَا فَإِنَّهُ لَزِمَ تَكْرَارَهُ كَمَا فِي مَرَرْتُ بِرَجُلٍ لَا كِرِيمٍ وَلَا شُجَاعٍ قَالَ تَعَالَى: {لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} [الواقعة: ٤٤] وَلَا يَجُوزُ بِغَيْرِ تَكْرَارِ لَا إِلَّا فِي الشِّعْرِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْحَدِيثِ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ فَتَدَبَّرْ، ثُمَّ قَوْلُهُ: وَتَفْسِيرِي الْمُجَاوَزَةَ بِالْإِحْصَاءِ غَيْرُ بَعِيدٍ، لِأَنَّهُ مِنْ أَحْصَى الشَّيْءَ فَقَدْ جَاوَزَهُ إِلَى غَيْرِهِ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ عُلُومَهُ تَعَالَى فَلَا يُجَاوِزُهُ أَحَدٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ مِنْ مَخْلُوقٍ فِي حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ الْمُجَاوَزَةُ وَالْمُخَالَفَةُ لِمَعْلُومَاتِهِ تَعَالَى وَمَعَ صِحَّةِ هَذَا الْمَعْنَى لَا وَجْهَ لِلْعُدُولِ إِلَى مَعْنَى الْإِحْصَاءِ اللَّازِمِ مِنْهُ الْمُجَاوَزَةُ عَلَى زَعْمِهِ، مَعَ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ: لَا يُحْصِي عِلْمَهُ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ، إِذْ لَا يُفِيدُ التَّأْكِيدُ حِينَئِذٍ أَصْلًا كَمَا لَا يَخْفَى.
وَأَيْضًا تَفْسِيرُ الْمُجَاوَزَةِ بِالْإِحْصَاءِ لَا يَصِحُّ عِنْدَ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الثَّانِي بِالْكَلِمَاتِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، ثُمَّ مِنَ الْعَجِيبِ تَبَجُّحُهُ وَعَلَى زَعْمِهِ تُرَجِّحُهُ بِقَوْلِهِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ: الَّتِي إِلَخْ أَحْسَنُ وَأَوْضَحُ مِمَّا ذَكَرَهُ شَارِحٌ فَتَأَمَّلَ هَذَا.
وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَنَحْوِهِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اسْتَعَاذَ بِهِ كَمَا اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ وَبِصِفَاتِهِ كَرَبِّ النَّاسِ وَبِعِزَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ يَسْتَعِيذُ بِمَخْلُوقٍ (وَبِأَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى مَا عَلِمْتُ مِنْهَا) أَيْ مِنَ الْكَلِمَاتِ وَالْأَسْمَاءِ أَوْ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَهُوَ الْأَقْرَبُ (وَمَا لَمْ أَعْلَمْ) أَيْ مِنْهَا وَالْمُرَادُ الْعُمُومُ (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) أَيْ أَنْشَأَ وَقَدَّرَ (وَذَرَأَ) بِالْهَمْزِ أَيْ بَثَّ وَنَشَرَ (وَبَرَأَ) أَيْ أَوْجَدَ مُبَرَّأً عَنِ التَّفَاوُتِ فَخَلَقَ كُلَّ عُضْوٍ عَلَى مَا يَنْبَغِي قَالَ تَعَالَى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: ٣] (رَوَاهُ مَالِكٌ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute