للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

٢٤٧٩ - (عَنِ الْقَعْقَاعِ أَنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ قَالَ: لَوْلَا كَلِمَاتٌ أَقُولُهُنَّ لَجَعَلَتْنِي يَهُودُ حِمَارًا. فَقِيلَ لَهُ: مَا هُنَّ قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِ اللَّهِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَيْسَ شَيْءٌ أَعْظَمَ مِنْهُ، وَبِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ، وَبِأَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى مَا عَلِمْتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ) . رَوَاهُ مَالِكٌ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

٢٤٧٩ - (عَنِ الْقَعْقَاعِ) بِالْقَافَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ، أَيِ ابْنِ حَكِيمٍ الْمَدَنِيِّ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبَا يُونُسَ مَوْلَى عَائِشَةَ (أَنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ كَانَ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ ; أَيْ عُلَمَائِهِمْ، أَدْرَكَ زَمَنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَسْلَمَ زَمَنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: لَوْلَا كَلِمَاتٌ أَقُولُهُنَّ) أَيْ أَدْعُو بِهِنَّ (لَجَعَلَتْنِي يَهُودُ) أَيْ مِنَ السِّحْرِ (حِمَارًا) أَيْ بَلِيدًا أَوْ ذَلِيلًا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ سَحَرَةٌ، وَقَدْ أَغْضَبَهُمْ إِسْلَامِي، فَلَوْلَا اسْتِعَاذَتِي بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ لَتَمَكَّنُوا مِنِّي وَغَلَبُوا عَلَيَّ، وَجَعَلُونِي بَلِيدًا، وَأَذَلُّونِي كَالْحِمَارِ، فَإِنَّهُ مِثْلُ الذِّلَّةِ قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْيَهُودَ سَحَرَتْهُ، وَلَوْلَا اسْتِعَاذَتِي بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ لَتَمَكَّنُوا مِنْ أَنْ يَقْلِبُوا حَقِيقَتِي اهـ.

وَفِيهِ أَنَّ قَلْبَ الْحَقَائِقِ لَيْسَ إِلَّا لِلَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُونُوا قِرَدَةً} [البقرة: ٦٥] وَقَالَ {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: ٦٦] فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ سِحْرِهِمُ الَّذِي أُجْمِعَ عَلَيْهِ كَيْدُ السَّحَرَةِ فِي زَمَانِ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَإِذَا لَمْ يَقْدِرُوا فِي حَقِّهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَقْدِرُوا عَلَى سَيِّدِ الْخَلْقِ وَمُظْهِرِ الْحَقِّ أَنْ يَقْلِبُوا حَقِيقَتَهُ، وَلِذَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَالْمُرَادُ بِالسِّحْرِ مَا يُسْتَعَانُ فِي تَحْصِيلِهِ بِالتَّقَرُّبِ إِلَى الشَّيْطَانِ مِمَّا لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ الْإِنْسَانُ وَذَلِكَ لَا يَسْتَتِبُّ إِلَّا لِمَنْ يُنَاسِبُهُ فِي الشَّرَارَةِ وَخُبْثِ النَّفْسِ، فَإِنَّ التَّنَاسُبَ شَرْطٌ فِي التَّضَامِّ وَالتَّعَاوُنِ، وَبِهَذَا تَمَيَّزَ السَّاحِرُ عَنِ النَّبِيِّ وَالْوَلِيِّ، وَأَمَّا مَا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ كَمَا يَفْعَلُهُ أَصْحَابُ الْحِيَلِ بِمَعُونَةِ الْآلَاتِ وَالْأَدْوِيَةِ فَتَسْمِيَتُهُ سِحْرًا عَلَى التَّجَوُّزِ اهـ. فَإِذَا كَانَ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ حِمَارًا حَقِيقَةً فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ، فَكَيْفَ لِلْمُتَوَسِّلِ إِلَى قُرْبِهِ أَنْ يَقْلِبَ الْحَقِيقَةَ، وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ الْمَدَارِكِ: وَلِلسِّحْرِ حَقِيقَةٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ - كَثَّرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - وَتَخْيِيلٌ وَتَمْوِيهٌ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ خَذَلَهُمُ اللَّهُ فَمَعْنَاهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السِّحْرُ حَقٌّ ; أَيْ ثَابِتٌ وَاقِعٌ لَا أَنَّهُ خَيَالٌ فَاسِدٌ كَرُؤْيَةِ الْأَحْوَالِ شَيْئًا وَاحِدًا شَيْئَيْنِ، وَكَتَخَيُّلِ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ خَلَلِ الدِّمَاغِ وَحُصُولِ الْأَفْكَارِ الْفَاسِدَةِ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: ١٠٢] وَقَوْلِهِ {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: ١٠٢] أَيْ عِلْمَ السِّحْرِ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِأَنْ يُحْدِثَ اللَّهُ عِنْدَهُ النُّشُوزَ وَالْخِلَافَ وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: ٤] كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ فِي سِحْرِ الْيَهُودِ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ قَوْلُ الْبَغَوِيِّ وَالصَّحِيحُ أَنَّ السِّحْرَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّمْوِيهِ وَالتَّخْيِيلِ، وَالسِّحْرُ وُجُودُهُ حَقِيقَةٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأُمَمِ، حَكَى عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: السِّحْرُ يَخْبِلُ وَيُمْرِضُ وَقَدْ يَقْتُلُ حَتَّى أَوْجَبَ الْقِصَاصَ عَلَى مَنْ قَتَلَ بِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي قَلْبِ الْأَعْيَانِ فَيَجْعَلُ الْآدَمِيَّ عَلَى صُورَةِ الْحِمَارِ وَيَجْعَلُ الْحِمَارَ عَلَى صُورَةِ الْكَلْبِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ تَخْيِيلٌ قَالَ تَعَالَى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: ٦٦] لَكِنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي الْأَبْدَانِ بِالْأَمْرَاضِ وَالْمَوْتِ وَالْجُنُونِ اهـ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَلْبِ الْحَقَائِقِ بَعْدَ إِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ عَلَى خِلَافِهِ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِثْلُ هَذَا أَبَدًا فِي الْكَوْنِ، وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ، فَمِنْ أَعْجَبِ الْعَجَائِبِ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَكَوْنُ السِّحْرِ يَقْلِبُ الْآدَمِيَّ حِمَارًا بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ لَا الْحَقِيقَةِ أَوْ وَالْحَقِيقَةِ، عَلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ خِلَافٍ، أَمْرٌ وَاقِعٌ شُوهِدَ فِي بَعْضِ النَّوَاحِي كَصَعِيدِ مِصْرَ، كَمَا شُوهِدَ فِيهِ أَنَّ رَجُلًا سَافَرَ عَنْ زَوْجَتِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهَا فَطَالَ ذَكَرُهُ وَصَارَ كُلَّمَا مَشَى طَالَ، فَأَخَذَهُ وَلَفَّ عَلَى رَقَبَتِهِ فَطَالَ، فَلَفَّهُ إِلَى أَنْ أَعْجَزَهُ حَمْلُهُ عَنِ الْمَشْيِ فَوَقَفَ عَيًّا، وَلَمْ يَجِدْ لَهُ مُخَلِّصًا إِلَّا رُجُوعَهُ إِلَيْهَا، فَرَجَعَ فَخَفَّ ثُمَّ لَا يَزَالُ يَخِفُّ حَتَّى وَصَلَ إِلَى مَحَلِّهَا، وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ اهـ.

وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى قَلْبِ الصُّورَةِ فَضْلًا عَنِ الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا تَخْيِيلُ السِّحْرِ وَتَمْوِيهُهُ الْحَاصِلُ مِنْ ثُبُوتِ أَثَرِ السِّحْرِ، إِذْ رُجُوعُهُ إِلَى حَالَةِ الْأَوَّلِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْقَلْبِ صَرِيحًا، فَإِنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ الْقَلْبُ لَبَقِيَ ذَكَرُهُ فِي حَلْقِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِذْ لَمْ يَقَعْ حِينَئِذٍ سِحْرٌ آخَرُ قَلَبَهُ ثَانِيًا، مَعَ أَنَّ دَعْوَى الْمُشَاهَدَةِ بَاطِلَةٌ إِذْ هِيَ مُجَرَّدُ حِكَايَةٍ فَاسِدَةٍ مِمَّا

<<  <  ج: ص:  >  >>