[بَابُ الْكَبَائِرِ وَعَلَامَاتِ النِّفَاقِ]
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
٤٩ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: " أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ " قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: " أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ ". قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: " أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَهَا: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: ٦٨] » مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
[١]- بَابُ الْكَبَائِرِ
جُمَعُ كَبِيرَةٍ، وَهِيَ السَّيِّئَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي خَطِيئَتُهَا فِي نَفْسِهَا كَبِيرَةٌ، وَعُقُوبَةُ فَاعِلِهَا عَظِيمَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَعْصِيَةٍ لَيْسَتْ بِكَبِيرَةٍ، وَقِيلَ: الْكَبِيرَةُ مَا أَوْعَدَ عَلَيْهِ الشَّارِعُ بِخُصُوصِهِ، وَقِيلَ: مَا عُيِّنَ لَهُ حَدٌّ، وَقِيلَ: النِّسْبَةُ إِضَافِيَّةٌ، فَقَدْ يَكُونُ الذَّنْبُ كَبِيرَةً بِالنِّسْبَةِ لِمَا دُونَهُ، صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فَوْقَهُ، وَقَدْ يَتَفَاوَتُ بِاعْتِبَارِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ كَمَا قِيلَ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، وَقَدْ يَتَفَاوَتُ بِاعْتِبَارِ الْمَفْعُولِ، فَإِنَّ إِهَانَةَ السَّادَاتِ وَالْعُلَمَاءِ لَيْسَتْ كَإِهَانَةِ السُّوقَةِ وَالْجُهَلَاءِ، وَلِلشَّيْخِ ابْنِ حَجَرٍ كِتَابٌ نَفِيسٌ فِي هَذَا الْبَابِ يُسَمَّى: الزَّوَاجِرُ عَنِ الْكَبَائِرِ، وَقِيلَ: كُلُّ مَعْصِيَةٍ كَبِيرَةٌ نَظَرًا إِلَى عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: لَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ، وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ، وَقِيلَ: بِإِبْهَامِ الْكَبِيرَةِ مِنْ بَيْنِ الذُّنُوبِ؛ لِئَلَّا يَرْتَفِعَ الْخَوْفُ مِنَ الْقُلُوبِ. (وَعَلَامَاتُ النِّفَاقِ) تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ، أَوْ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ.
٤٩ - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) يُكْنَى أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْهُذَلِيَّ، كَانَ إِسْلَامُهُ قَدِيمًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ دُخُولِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دَارِ الْأَرْقَمِ، وَقَبْلَ عُمَرَ بِزَمَانٍ، وَقِيلَ: كَانَ سَادِسًا فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ ضَمَّ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِوَاكَهُ، وَنَعْلَيْهِ، وَطَهُورَهُ فِي السَّفَرِ، هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ، وَشَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجَنَّةِ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «رَضِيتُ لِأُمَّتِي مَا رَضِيَ لَهَا ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ، وَسَخِطْتُ لَهَا مَا سَخِطَ لَهَا ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ» ) يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ، وَكَانَ يُشَبَّهُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَمْتِهِ، وَدَلَّهُ، وَهَدْيِهِ، كَانَ خَفِيفَ اللَّحْمِ قَصِيرًا، شَدِيدَ الْأُدْمَةِ نَحِيفًا، طُوَالُ الرِّجَالِ تُوَازِيهِ جَالِسًا، وَلِي الْقَضَاءَ بِالْكُوفَةِ وَبَيْتَ مَالِهَا لِعُمْرَ وَصَدَرًا مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ، ثُمَّ صَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَاتَ بِهَا سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، وَلَهُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً. رَوَى عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَهُوَ عِنْدَنَا أَفْقَهُ الصَّحَابَةِ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ. (قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ؟) الذَّنْبُ مَا يُذَمُّ بِهِ الْآتِي بِهِ شَرْعًا، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ لَا يُغْفَرُ بِلَا تَوْبَةٍ وَهُوَ الْكُفْرُ، وَقِسْمٌ يُرْجَى أَنْ يُغْفَرَ بِالِاسْتِغْفَارِ وَسَائِرِ الْحَسَنَاتِ وَهُوَ الصَّغَائِرُ، وَقِسْمٌ يُغْفَرُ بِالتَّوْبَةِ وَبِدُونِهَا تَحْتَ الْمَشِيئَةِ وَهُوَ الْكَبَائِرُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِسْمٌ يَحْتَاجُ إِلَى التَّرَادِّ وَهُوَ حَقُّ الْآدَمِيِّ، وَالتَّرَادُّ إِمَّا فِي الدُّنْيَا بِالِاسْتِحْلَالِ أَوْ رَدِّ الْعَيْنِ، أَوْ بَدَلِهِ، وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ بِرَدِّ ثَوَابِ الظَّالِمِ لِلْمَظْلُومِ، أَوْ إِيقَاعِ سَيِّئَةِ الْمَظْلُومِ عَلَى الظَّالِمِ، أَوْ أَنَّهُ تَعَالَى يُرْضِيهِ بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ. (قَالَ: (أَنْ تَدْعُوَ) أَيْ تَجْعَلَ (لِلَّهِ نِدًّا) بِالْكَسْرِ أَيْ مِثْلًا وَنَظِيرًا فِي دُعَائِكَ وَعِبَادَتِكَ، وَقِيلَ النِّدُّ: الْمِثْلُ الْمُزَاحِمُ الَّذِي يُضَادُّهُ فِي أُمُورِهِ مِنْ: نِدَّ: نَفَرَ، وَأَمَّا الضِّدُّ فَهُوَ أَحَدُ مُتَقَابِلَيْنِ لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا (وَهُوَ خَلَقَكَ) الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ اللَّهِ، أَوْ مِنْ فَاعِلِ " أَنْ تَدْعُوَ "، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا اسْتَحَقَّ بِهِ تَعَالَى أَنْ تَتَّخِذَهُ رَبًّا وَتَعْبُدَهُ؛ فَإِنَّهُ خَلَقَكَ، أَوْ إِلَى مَا بِهِ امْتِيَازُهُ تَعَالَى عَنْ غَيْرِهِ فِي كَوْنِهِ إِلَهًا، أَوْ إِلَى ضَعْفِ النِّدِّ أَيْ أَنْ تَدْعُوَ لَهُ نِدًّا، وَقَدْ خَلَقَكَ غَيْرُهُ، وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ شَيْءٍ، وَالْمُرَادُ أَنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ هُوَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ، بَلِ الْكُفْرُ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا خُصَّ فَإِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ. (قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟) اسْتِفْهَامٌ بِالتَّنْوِينِ بَدَلٌ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، لَكِنْ يُحْذَفُ التَّنْوِينُ وَقْفًا بِمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ مِنَ الذُّنُوبِ أَكْبَرُ بَعْدَ الْكُفْرِ (قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ) مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ (أَنْ يَطْعَمَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ يَأْكُلَ (مَعَكَ) لَا خِلَافَ أَنَّ أَكْبَرَ الذُّنُوبِ بَعْدَ الْكُفْرِ قَتْلُ نَفْسِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَالْمَعْنَى أَنَّ قَتْلَ الْوَلَدِ أَكْثَرُ مِنْ سَائِرِ الذُّنُوبِ، وَقَتْلُهُ مِنْ خَوْفِ أَنْ يَطْعَمَ أَيْضًا ذَنْبٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الرِّزْقَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ " ثُمَّ " فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِتَرَاخِي الزَّمَانِ؛ إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ هَاهُنَا، وَلَا لِتَرَاخِي الرُّتْبَةِ؛ لِوُجُوبِ كَوْنِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute