الْمَعْطُوفِ بِهَا أَعْلَى مَرْتَبَةً، وَهُنَا بِالْعَكْسِ بَلْ هِيَ لِلتَّرَاخِي فِي الْإِخْبَارِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَخْبِرْنِي عَنْ أَوْجَبِ مَا يُهِمُّنِي السُّؤَالُ عَنْهُ مِنَ الذُّنُوبِ، ثُمَّ الْأَوْجَبُ فَالْأَوْجَبُ، كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لِتَرَاخِي الرُّتْبَةِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَعْطُوفُ بِهَا أَدْنَى مَرْتَبَةً كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ( «أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَوْلِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ» ) .
وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ الْمُسْلِمَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ كَبِيرَةٌ، وَأَفْحَشُ أَنْوَاعِهِ قَتْلُ الْقَرِيبِ؛ لِأَنَّكَ ضَمَمْتَ إِلَى مَعْصِيَةِ الْقَتْلِ مَعْصِيَةَ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَأَفْحَشُ أَنْوَاعِهِ قَتْلُ الْقَرِيبِ؛ قَتْلُ الْوَالِدِ ثُمَّ قَتْلُ الْوَلَدِ، فَكَوْنُ قَتْلِ الْوَلَدِ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الْكُفْرِ إِنَّمَا هُوَ بِضَمِّ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِنَّهُ يَضُمُّ إِلَى تِلْكَ الْقَبَائِحِ عَدَمُ رُؤْيَةِ الرِّزْقِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَانْتِفَاءُ التَّوَكُّلِ، وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ فِي أَمْرِهِ مَعَ دَلَالَتِهِ عَلَى كَمَالِ قَسَاوَتِهِ بِقَتْلِ نَفْسٍ زَكِيَّةٍ صَغِيرَةٍ بِأَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ، وَهُوَ دَفْنُهُ حَيًّا. (قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: " أَنْ تُزَانِيَ ") أَيْ تَزْنِيَ (حَلِيلَةَ جَارِكَ) أَيْ زَوْجَتَهُ، مِنْ حَلَّ يَحِلُّ بِالْكَسْرِ، إِذْ كُلٌّ مِنْهُمَا حَلَالٌ لِلْآخَرِ، أَوْ مِنْ حَلَّ يَحُلُّ بِالضَّمِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَالٌّ عِنْدَ الْآخَرِ، فَمُطْلَقُ الزِّنَا ذَنْبٌ كَبِيرٌ، وَخَاصَّةً مَعَ مَنْ سَكَنَ جَارَكَ، وَالْتَجَأَ لِأَمَانَتِكَ، فَهُوَ زِنًا وَإِبْطَالُ حَقِّ الْجُوَارِ، وَالْخِيَانَةُ مَعَهُ أَقْبَحُ، فَحَاصِلُ الْقُيُودِ مِنَ النِّدِّ وَالْوَلَدِ وَالْجَارِ كَمَالُ تَقْبِيحِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ، لَا أَنَّهَا قُيُودٌ احْتِرَازِيَّةٌ، وَإِلَّا فَأَفْحَشُ الزِّنَا أَنْ يَكُونَ بِالْمَحَارِمِ. ثُمَّ الْإِتْيَانُ بِقَوْلِهِ: (أَنْ تُزَانِيَ) بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ مُبَالَغَةٌ لَا تَخْفَى، فَالْحَدِيثُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: ٣١] أَوْ رِعَايَةً لِحَالِ السَّائِلِ، وَلِذَا قَيَّدَ الْكَبَائِرَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ لِكَوْنِهَا سَبْعًا، وَاقْتَصَرَ فِي بَعْضِهَا عَلَى ثَلَاثٍ مِنْهَا كَمَا هُنَا، أَوْ أَرْبَعٍ كَمَا يَأْتِي بِنَاءً عَلَى بَيَانِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ مِنْهَا وَقْتَ ذِكْرِهِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ إِلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِلَى السَّبْعِمِائَةِ أُقْرَبُ، قِيلَ: يَأْتِ بِاعْتِبَارِ أَصْنَافِ أَنْوَاعِهَا، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَأَنْزَلَ اللَّهُ) وَفِي نُسْخَةٍ: عَزَّ وَجَلَّ (تَصْدِيقَهَا) أَيْ تَصْدِيقَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، أَوِ الْأَحْكَامِ، أَوِ الْوَاقِعَةِ، وَنَصَبَهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، أَيْ أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ تَصْدِيقًا لَهَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَقْرِيرِ السُّنَّةِ وَتَصْدِيقِهَا بِالْكِتَابِ، كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَلَا أَعْرِفُ لَهُ مُخَالِفًا فِي هَذَا الْمَقَالِ لِيَحْتَاجَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ، وَيُمْكِنَ أَنْ يُرَادَ بِالتَّصْدِيقِ الْمُطَابَقَةُ وَالتَّوْفِيقُ، وَتَكُونُ السُّنَّةُ مُقْتَبَسَةً مِنَ الْآيَةِ مَعَ زِيَادَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَقْبَحِ الْأَفْرَادِ {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: ٦٨] هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُبْتَدَأِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ عِبَادُ الرَّحْمَنِ {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ} [الفرقان: ٦٨] يَعْنِي نَفْسَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ وَالْمَعَاهِدِ {الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} [الفرقان: ٦٨] أَيْ قَتْلَهَا، وَالْمَعْنَى لَا يَقْتُلُونَ نَفْسَ غَيْرِ الْحَرْبِيِّ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُودِ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ {إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان: ٦٨] أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَتْلِ الْمُقَدَّرِ، وَقِيلَ: بِلَا يَقْتُلُونَ أَيْ بِإِحْدَى الْخِصَالِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ الرِّدَّةُ، وَزِنَا الْإِحْصَانِ، وَالْقَصَاصِ {وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: ٦٨] الْآيَةَ: بِتَمَامِهَا فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ، وَفِي كَوْنِ هَذِهِ الْآيَةِ مُصَدِّقَةً لِلْحَدِيثِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ ذِكْرَ الْوَلَدِ، وَالْخَشْيَةَ، وَحَلِيلَةَ الْجَارِ إِنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ زِيَادَةِ الْفُحْشِ لَا لِلتَّقْيِيدِ، وَإِلَّا لَمْ تَكُنِ الْآيَةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَكْبَرِيَّةِ الْقَتْلِ وَالزِّنَا لَا بِقَيْدِ مُطَابَقَةٍ لِلْحَدِيثِ حَتَّى تُصَدِّقَهُ، بَلْ كَانَ الْحَدِيثُ مُقَيِّدًا لَهَا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute