غَيْرُ ظَاهِرٍ (فَقَالَ أَيْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟) أَيُّ شَيْءٍ خَطَرَ لَكَ حَتَّى امْتَنَعْتَ مِنَ الْبَيْعَةِ. (قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ) : مَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ شَرْطًا أَوْ شَيْئًا، وَالْمَعْنَى أَرَدْتُ بِذَلِكَ الِامْتِنَاعَ أَنْ أَشْتَرِطَ لِنَفْسِي مَا يَحْصُلُ لَهَا مِنَ الْانْتِفَاعِ (قَالَ: تَشْتَرِطُ مَاذَا) قِيلَ: حَقُّ " مَاذَا " أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَى " تَشْتَرِطُ "؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ يَقْتَضِي الصَّدَارَةَ فَحُذِفَ " مَاذَا "، وَأُعِيدَ بَعْدَ تَشْتَرِطُ تَفْسِيرًا لِلْمَحْذُوفِ، وَقِيلَ: كَأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَسْتَحْسِنْ مِنْهُ الِاشْتِرَاطَ فِي الْإِيمَانِ، فَقَالَ: أَتَشْتَرِطُ؟ إِنْكَارًا، فَحَذَفَ الْهَمْزَةَ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: مَاذَا؟ أَيْ مَا الَّذِي تَشْتَرِطُ، أَوْ: أَيُّ شَيْءٍ تَشْتَرِطُ؟ وَقَالَ الْمَالِكِيُّ فِي قَوْلِ عَائِشَةَ: أَقُولُ: " مَاذَا " شَاهِدٌ عَلَى أَنَّ " مَا " الِاسْتِفْهَامِيَّةَ إِذَا رُكِّبَتْ مَعَ " ذَا " تُفَارِقُ وُجُوبَ التَّصْدِيرِ، فَيَعْمَلُ فِيهَا مَا قَبْلَهَا رَفْعًا وَنَصْبًا فَالرَّفْعُ كَقَوْلِكَ: كَانَ مَاذَا، وَالنَّصْبُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ: يَجُوزُ وُقُوعُهَا تَمْيِيزًا كَقَوْلِكَ لِمَنْ قَالَ: عِنْدِي عِشْرُونَ عِشْرُونَ مَاذَا (قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَقِيلَ: لِلْفَاعِلِ أَيِ اللَّهُ كَمَا فِي نُسْخَةِ (لِي) أَيْ أَشْتَرِطُ غُفْرَانَ ذُنُوبِي إِنْ أَسْلَمْتُ (قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ يَا عَمْرُو) أَيْ مِنْ حَقِّكَ مَعَ رَزَانَةِ عَقْلِكَ وَجَوْدَةِ رَأْيِكَ وَكَمَالِ حَذَقِكَ الَّذِي لَمْ يَلْحَقْكَ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ أَلَّا يَكُونَ خَفِيًّا عَنْ عِلْمِكَ (أَنَّ الْإِسْلَامَ) أَيْ إِسْلَامُ الْحَرْبِيِّ ; لِأَنَّ إِسْلَامَ الَّذِي لَا يَسْقُطُ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ (يَهْدِمُ) : بِكَسْرِ الدَّالِ أَيْ يَمْحُو (مَا كَانَ قَبْلَهُ) أَيِ السَّيِّئَاتِ (وَأَنَّ الْهِجْرَةَ) أَيْ إِلَيَّ فِي حَيَاتِي، وَبَعْدَ وَفَاتِي مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا خَبَرُ: لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ فَمَعْنَاهُ لَا هِجْرَةَ مِنْ مَكَّةَ؛ لِأَنَّ أَهْلَهَا صَارُوا مُسْلِمِينَ (تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا) أَيْ مِمَّا وَقَعَ قَبْلَهَا وَبَعْدَ الْإِسْلَامِ مَا عَدَا الْمَظَالِمَ أَيْ مِنَ السَّيِّئَاتِ (وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ) أَيْ مِنَ التَّقْصِيرَاتِ سَقَطَ لَفْظُ كَانَ مِنْ أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ، فَتَكَلَّفَ لَهُ وَجْهًا، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ الْمُصَحَّحَةِ الْمَقْرُوءَةِ عَلَى الْمَشَايِخِ. قَالَ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ مِنْ أَئِمَّتِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ: الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ مُطْلَقًا مَظْلَمَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا، صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً، وَأَمَّا الْهِجْرَةُ وَالْحَجُّ فَإِنَّهُمَا لَا يُكَفِّرَانِ الْمَظَالِمَ، وَلَا يُقْطَعُ فِيهِمَا بِغُفْرَانِ الْكَبَائِرِ الَّتِي بَيْنَ الْعَبْدِ وَمَوْلَاهُ، فَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى هَدْمِهِمَا الصَّغِيرَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ، وَيُحْتَمَلُ هَدْمُهُمَا الْكَبَائِرَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ بِشَرْطِ التَّوْبَةِ. عَرَفْنَا ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ فَرَدَدْنَا الْمُجْمَلَ إِلَى الْمُفَصَّلِ، وَعَلَيْهِ اتِّفَاقُ الشَّارِحِينَ. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: يَمْحُو الْإِسْلَامُ مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنْ كُفْرٍ وَعِصْيَانٍ، وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِمَا مِنَ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي هِيَ حُقُوقُ اللَّهِ، وَأَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ فَلَا تَسْقُطُ بِالْحَجِّ وَالْهِجْرَةِ إِجْمَاعًا، وَلَا بِالْإِسْلَامِ لَوْ كَانَ الْمُسْلِمُ ذِمِّيًّا، سَوَاءٌ كَانَ الْحَقُّ عَلَيْهِ مَالِيًّا أَوْ غَيْرَ مَالِيٍّ كَالْقِصَاصِ، أَوْ كَانَ الْمُسْلِمُ حَرْبِيًّا وَكَانَ الْحَقُّ مَالِيًّا بِالِاسْتِقْرَاضِ أَوِ الشِّرَاءِ، وَكَانَ الْمَالُ غَيْرَ الْخَمْرِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْحَجُّ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ مِمَّا وَقَعَ قَبْلَهُ وَبَعْدَ الْإِسْلَامِ مَا عَدَا الْمَظَالِمَ، لَكِنْ بِشَرْطِ مَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ: ( «مِنْ حَجٍّ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» ) مَعَ ذَلِكَ فَالَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ كَمَا نَقَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ كَالنَّوَوِيِّ وَعِيَاضٍ أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ فِي غَيْرِ التَّبِعَاتِ، بَلِ الْكَبَائِرُ، إِذْ لَا يُكَفِّرُهَا إِلَّا التَّوْبَةُ، وَعِبَارَةُ بَعْضِ الشَّارِحِينَ حُقُوقُ الْمَالِيَّةِ لَا تَنْهَدِمُ بِالْهِجْرَةِ وَالْحَجِّ، وَفِي الْإِسْلَامِ خِلَافٌ، وَأَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ فَلَا تَسْقُطُ بِالْهِجْرَةِ وَالْحَجِّ إِجْمَاعًا اهـ.
نَعَمْ يَجُوزُ بَلْ يَقَعُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ لِعَاصٍ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ وَعَلَيْهِ تَبِعَاتٌ عُوِّضَ صَاحِبُهَا مِنْ جَزِيلِ ثَوَابِهِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِعَفْوِهِ وَرِضَاهُ، وَأَمَّا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ: إِنَّ الْحَجَّ يُكَفِّرُ التَّبِعَاتَ، وَاسْتَدَلُّوا بِخَبَرِ ابْنِ مَاجَهْ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دَعَا لِأُمَّتِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِالْمَغْفِرَةِ، فَاسْتُجِيبَ لَهُ مَا خَلَا الْمَظَالِمَ فَلَمْ يُجَبْ لِمَغْفِرَتِهَا، فَدَعَا صَبِيحَةَ مُزْدَلِفَةَ بِذَلِكَ فَضَحِكَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا رَأَى مِنْ جَزَعِ إِبْلِيسَ لِمَا شَاهَدَهُ مِنْ عُمُومِ تِلْكَ الْمَغْفِرَةِ» ، فَيَرُدُّهُ أَنَّ الْحَدِيثَ سَنَدُهُ ضَعِيفٌ اهـ. وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ يُمْكِنُ حَمْلُ الْمَظَالِمِ عَلَى مَا لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ، أَوْ يُقَيَّدُ بِالتَّوْبَةِ، أَوِ التَّخْصِيصِ بِمَنْ كَانَ مَعَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ أُمَّتِهِ فِي حِجَّتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ مُصِرًّا عَلَى مَعْصِيَةٍ؛ وَلِذَا قَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ الصَّحَابَةَ كُلُّهُمْ عُدُولٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَالْحَدِيثَانِ الْمَرْوِيَّانِ) أَيِ الْمَذْكُورَانِ هُنَا فِي الْمَصَابِيحِ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) : أَوَّلُهُمَا: ( «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ» ) : إِلَخْ (وَالْآخَرُ: «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي» ) : إِلَخْ. (سَنَذْكُرُهُمَا فِي بَابِ الرِّيَاءِ وَالْكِبْرِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute