للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

بِمَا يُفَاضُ عَلَيْهِ فِيهَا مِنْ غَايَاتِ الْقُرْبِ، وَخَوَارِقِ التَّجَلِّيَاتِ، فَتَنْكَشِفُ لَهُ حَقَائِقُ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، فَيُدْرِكُ مِنْ خَلْفِهِ كَمَا يُدْرِكُ مِنْ أَمَامِهِ؛ لِأَنَّهُ لِبَاهِرِ كَمَالِهِ لَا يَشْغَلُهُ جَمْعُهُ عَنْ فَرْقِهِ، فَهُوَ وَإِنِ اسْتَغْرَقَ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ، فَعُلِمَ أَنَّ مَا هُنَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «إِنِّي لَا أَعْلَمُ مَا وَرَاءَ جِدَارِي» " عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خَارِجِ الصَّلَاةِ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ لَهُ عَيْنَانَ بَيْنَ كَتِفِهِ كَسَمِّ الْخِيَاطِ يَرَى بِهِمَا كَمَا يَرَى بِعَيْنَيْهِ الْأَصْلِيَّتَيْنِ، مَعَ أَنَّ فِي الْحَقِيقَةِ لَا مُنَافَاةَ؛ لِأَنَّ الْمُثْبَتَ هُنَا الرُّؤْيَةُ الْبَصَرِيَّةُ، وَالْمَنْفِيَّ ثَمَّةَ الْعِلْمُ أَيْ بِالْمُغَيَّبَاتِ، فَلَمْ يَتَوَارَدَا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَفِي مَعْنَى هَذَا خَبَرُ الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا، " «هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَاهُنَا؟ فَوَاللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ رُكُوعُكُمْ وَلَا سُجُودُكُمْ إِنِّي لَأَرَى مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي» " وَفِيهِ رِوَايَةٌ لِمُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ: " «أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي إِمَامُكُمْ فَلَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُودِ، فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ أَمَامِي وَمِنْ خَلْفِي» " وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ تَوَقُّفَ الرُّؤْيَةِ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ عَلَى حَاسَّةٍ وَشُعَاعٍ وَمُقَابَلَةٍ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّ مَحِلَّهُ فِي غَيْرِ الْمُعْجِزَةِ، وَخَالِقُ الْبَصَرِ فِي الْعَيْنِ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِهِ فِي غَيْرِهَا، قِيلَ سَبَبُ رُؤْيَتِهِ لِمَنْ وَرَاءَهُ أَنَّ صُوَرَهُمْ كَانَتْ مُنْطَبِعَةً فِي قِبْلَتِهِ، وَرُدَّ بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُتَجَاسَرُ عَلَيْهِ إِلَّا بِنَقْلٍ صَحِيحٍ، وَقِيلَ: هِيَ رُؤْيَةُ قَلْبٍ، قِيلَ: وَحْيٌ أَوْ إِلْهَامٌ، وَرُدَّ بِأَنَّ الصَّوَابَ أَنَّهَا رُؤْيَةُ مُشَاهَدَةٍ بِبَصَرٍ كَمَا مَرَّ، وَخَبَرُ ( «لَا أَعْلَمُ مَا وَرَاءَ جِدَارِي» ) ، لَا يُنَافِي بِنَاءً عَلَى مَا مَرَّ إِخْبَارُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِمُغَيَّبَاتٍ لَا تُحْصَى؛ لِأَنَّ ذَاكَ عَلَى الْأَصْلِ، وَهَذَا عَلَى خَرْقِ الْعَادَةِ بِوَحْيٍ أَوْ إِلْهَامٍ.

قُلْتُ: هَذَا مُنَاقَضَةٌ بَلْ مُضَادَّةٌ فِي الْكَلَامِ، ثُمَّ قَالَ: وَيُؤَيِّدُهُ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا ضَلَّتْ نَاقَتُهُ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّهُ يُخْبِرُكُمْ بِخَبَرِ السَّمَاءِ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ، قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " وَاللَّهِ إِنِّي لَا أَعْلَمُ إِلَّا مَا عَلَّمَنِي رَبِّي، وَقَدْ دَلَّنِي رَبِّي عَلَيْهَا، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا، حَبَسَتْهَا شَجَرَةٌ بِخِطَامِهَا» " فَذَهَبُوا فَوَجَدُوهَا كَمَا أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اهـ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَحْوَالَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ مُخْتَلِفَةٌ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَرَ يَعْقُوبُ وَلَدَهُ يُوسُفَ فِي الْبِئْرِ مَعَ قُرْبِهَا إِلَى بَلَدِهِ، وَوَجَدَ رِيحَ قَمِيصِ يُوسُفَ مِنْ حِينِ فَصَلَتِ الْعِيرُ مِنْ مِصْرَ، (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>