بِالنَّصْبِ، وَقِيلَ بِالرَّفْعِ، وَ (بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَبَيْنَ الْقِرَاءَةِ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ بَيْنَ هَذَا زَائِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى مُتَعَدِّدٍ (مَا تَقُولُ؟) ، أَيْ: فِي وَقْتِ سُكُوتِكَ مِنَ الْجَهْرِ، قَالَ الْمُظْهِرُ: بِالنَّصْبِ مَفْعُولُ فِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: أَسْأَلُكَ إِسْكَاتَكَ مَا تَقُولُ فِيهِ، أَوْ فِي إِسْكَاتِكَ مَا تَقُولُ؟ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ: وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ بِالرَّفْعِ فِي رِوَايَتِنَا عَلَى الِابْتِدَاءِ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَرُوِيَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ وَضَمِّ السِّينِ (قَالَ " أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) : أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْمُبَالَغَةِ؛ لِأَنَّ الْمُفَاعَلَةَ إِذَا لَمْ تَكُنْ لِلْمُغَالَبَةِ فَهِيَ لِلْمُبَالَغَةِ، وَقِيلَ بِكَ تُفِيدُ الْبُعْدَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ، وَبَاعِدْ بَيْنَ خَطَايَايَ وَبَيْنِي، وَالْخَطَايَا إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهَا اللَّاحِقَةُ، فَمَعْنَاهُ إِذَا قُدِّرَ لِي ذَنْبٌ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَالْمَقْصُودُ مَا سَيَأْتِي، أَوِ السَّابِقَةُ فَمَعْنَاهُ الْمَحْوُ وَالْغُفْرَانُ لِمَا حَصَلَ لِي مِنْهَا، وَهُوَ مَجَازٌ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمُبَاعَدَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَمَوْقِعُ التَّشْبِيهِ أَنَّ الْتِقَاءَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ مُسْتَحِيلٌ فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ لَا يَبْقَى لَهَا مِنْهُ اقْتِرَابٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَكَرَّرَ لَفْظَ بَيْنَ هُنَا، وَلَمْ يُكَرِّرْ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ يُعَادُ فِيهِ الْجَارُّ، بِهَذَا قَالَهُ مِيرَكُ، (اللَّهُمَّ نَقِّنِي) ، أَيْ: طَهِّرْنِي (مِنَ الْخَطَايَا) ، أَيِ: الَّتِي تُدَنِّسُ الْقُلُوبَ وَتُسَوِّدُهَا (كَمَا يُنَقَّى) ، بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ) ، أَيِ: الدَّرَنِ وَالْوَسَخِ، وَفِي تَقْيِيدِ الثَّوْبِ بِالْأَبْيَضِ مُبَالَغَةٌ لَا تَخْفَى (اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ) : بِالسُّكُونِ (وَالْبَرَدِ) : بِفَتْحَتَيْنِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: ذَكَرَ أَنْوَاعَ الْمُطَهِّرَاتِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ حُصُولُ الطَّهَارَةِ الْكَامِلَةِ إِلَّا بِأَحَدِهَا تِبْيَانًا لِأَنْوَاعِ الْمَغْفِرَةِ الَّتِي لَا مَخْلَصَ مِنَ الذُّنُوبِ إِلَّا بِهَا، أَيْ: طَهِّرْنِي مِنَ الْخَطَايَا بِأَنْوَاعِ مَغْفِرَتِكَ الَّتِي هِيَ فِي تَمْحِيصِ الذُّنُوبِ بِمَثَابَةِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ فِي إِزَالَةِ الْأَرْجَاسِ، وَالْأَوْزَارِ، وَرَفْعِ الْجَنَابَةِ، وَالْأَحْدَاثِ، قِيلَ: خَصَّ الثَّلْجَ وَالْبَرَدَ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُمَا مَاءَانِ مَقْطُورَانِ عَلَى خِلْقَتِهِمَا لَمْ يُسْتَعْمَلَا، وَلَمْ تَنَلْهُمَا الْأَيْدِي، وَلَمْ تَخُضْهُمَا الْأَرْجُلُ، كَسَائِرِ الْمِيَاهِ الَّتِي خَالَطَتِ التُّرَابَ، وَجَرَتْ فِي الْأَنْهَارِ، وَجُمِعَتْ فِي الْحِيَاضِ، فَهُمَا أَحَقُّ بِكَمَالِ الطَّهَارَةِ.
فَإِنْ قُلْتَ: الْغُسْلُ الْمُبَالَغُ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْمَاءِ الْحَارِّ فَلِمَ ذَكَرَ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: قَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ: مَعْنَاهُ طَهِّرْنِي مِنَ الذُّنُوبِ، وَذَكَرَهَا مُبَالَغَةً فِي التَّطْهِيرِ، لَا أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذِهِ أَمْثَالٌ وَلَمْ يُرِدْ أَعْيَانَ هَذِهِ الْمُسَمَّيَاتِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَا التَّأْكِيدَ فِي التَّطْهِيرِ وَالْمُبَالَغَةَ فِي مَحْوِهَا عَنْهُ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: عَبَّرَ بِهَا عَنْ غَايَةِ الْمَحْوِ، فَإِنَّ الثَّوْبَ الَّذِي يَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ مُنَقِّيَةٍ يَكُونُ فِي غَايَةِ النَّقَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَجَازٌ عَنْ صِفَةٍ يَقَعُ الْمَحْوُ بِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} [البقرة: ٢٨٦] قَالَ الطِّيبِيُّ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمَطْلُوبُ مِنْ ذِكْرِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمَاءِ لِطَلَبِ شُمُولِ الرَّحْمَةِ، وَأَنْوَاعِ الْمَغْفِرَةِ بَعْدَ الْعَفْوِ لِإِطْفَاءِ حَرَارَةِ عَذَابِ النَّارِ الَّتِي هِيَ فِي غَايَةِ الْحَرَارَةِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: بَرَّدَ اللَّهُ مَضْجَعَهُ، أَيْ: رَحِمَهُ وَوَقَاهُ عَذَابَ النَّارِ، قَالَ مِيرَكُ: وَأَقُولُ: الْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ: جَعَلَ الْخَطَايَا بِمَنْزِلَةِ نَارِ جَهَنَّمَ، فَعَبَّرَ عَنْ إِطْفَاءِ حَرَارَتِهَا بِالْغَسْلِ تَأْكِيدًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّعَوَاتِ الثَّلَاثِ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَزْمِنَةِ الثَّلَاثَةِ، فَالْمُبَاعَدَةُ لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَالْغَسْلُ لِلْمَاضِي، وَالتَّنْقِيَةُ لِلْحَالِ، وَكَانَ تَقْدِيمُ الْمُسْتَقْبَلِ لِلِاهْتِمَامِ بِدَفْعِ مَا سَيَأْتِي قَبْلَ دَفْعِ مَا حَصَلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ.
وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْمُبَاعَدَةُ فِيمَا لَمْ يَقَعْ مُطْلَقًا وَالتَّنْقِيَةُ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَالْغَسْلُ فِيمَا وَقَعَ مُطْلَقًا، وَتَعَدُّدُ آلَةِ الْغَسْلِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنْوَاعِ الْمَغْفِرَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالذُّنُوبِ وَمَرَاتِبِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَهَذَا كُلُّهُ تَعْلِيمٌ لِلْأُمَّةِ، أَوْ دُعَاءٌ لَهُمْ، أَوْ بِاعْتِبَارِ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتِ الْمُقَرَّبِينَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute