تَارِيخَهُ الْكَبِيرَ فِي اللَّيَالِي الْمُقْمِرَةِ، وَكَتَبُوا عَنْهُ، وَسِنُّهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: قَلَّ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ رِجَالِ التَّارِيخِ الْكَبِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدِي مِنْهُ حِكَايَةٌ، وَقِصَّةٌ إِلَّا أَنِّي تَرَكْتُهَا خَوْفًا مِنَ الْإِطْنَابِ، وَلَمَّا رَجَعَ مِنْ مَكَّةَ ارْتَحَلَ إِلَى سَائِرِ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ فِي أَكْثَرِ الْمُدُنِ، وَالْأَقَالِيمِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ارْتَحَلْتُ فِي اسْتِفَادَةِ الْحَدِيثِ إِلَى مِصْرَ، وَالشَّامِ مَرَّتَيْنِ، وَإِلَى الْبَصْرَةِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَلَا أُحْصِي مَا دَخَلْتُ مَعَ الْمُحَدِّثِينَ فِي بَغْدَادَ، وَالْكُوفَةِ، وَأَقَمْتُ فِي الْحِجَازِ سِتَّ سِنِينَ طَالِبًا لِعِلْمِ الْحَدِيثِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَالْحَامِلُ لِي عَلَى تَأْلِيفِهِ أَنَّنِي رَأَيْتُنِي وَاقِفًا بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَبِيَدِي مِرْوَحَةٌ أَذُبُّ عَنْهُ، فَعُبِّرَ لِي بِأَنِّي أَذُبُّ عَنْهُ الْكَذِبَ، وَمَا وَضَعْتُ فِيهِ حَدِيثًا إِلَّا بَعْدَ الْغُسْلِ، وَصَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ، وَأَخْرَجْتُهُ مِنْ زُهَاءِ سِتِّمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ، وَصَنَّفْتُهُ فِي سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، وَجَعَلْتُهُ حُجَّةً فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ، وَمَا أَدْخَلْتُ فِيهِ إِلَّا صَحِيحًا، وَمَا تَرَكْتُ مِنَ الصَّحِيحِ أَكْثَرُ ; لِئَلَّا يَطُولَ. وَصَنَّفْتُهُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَا أَدْخَلْتُ فِيهِ حَدِيثًا حَتَّى اسْتَخَرْتُ اللَّهَ، وَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ، وَتَيَقَّنْتُ صِحَّتَهُ. اهـ.
وَهَذَا بِاعْتِبَارِ الِابْتِدَاءِ، وَتَرْتِيبِ الْأَبْوَابِ، ثُمَّ كَانَ يُخْرِجُ الْأَحَادِيثَ بَعْدُ فِي بَلَدِهِ، وَغَيْرِهَا، وَهُوَ مَحْمِلُ رِوَايَةِ أَنَّهُ كَانَ يُصَنِّفُهُ فِي الْبِلَادِ ; إِذْ مُدَّةُ تَصْنِيفِهِ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، وَهُوَ لَمْ يُجَاوِرْ هَذِهِ الْمُدَّةَ بِمَكَّةَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ صَنَّفَ الصَّحِيحَ فِي الْبَصْرَةِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ صَنَّفَهُ فِي بُخَارَى. وَرُوِيَ عَنِ الْوَرَّاقِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِلْبُخَارِيِّ: جَمِيعُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَوْرَدْتَهَا فِي مُصَنَّفَاتِكَ هَلْ تَحْفَظُهَا؟ فَقَالَ: لَا يَخْفَى عَلَيَّ شَيْءٌ مِنْهَا ; فَإِنِّي قَدْ صَنَّفْتُ كُتُبِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالتَّكْرَارِ التَّبْيِيضَ، وَالتَّنْقِيحَ، وَلَعَلَّ كَثْرَةَ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَرِوَايَةُ أَنَّهُ جَعَلَ تَرَاجِمَهُ فِي الرَّوْضَةِ الشَّرِيفَةِ مَحْمُولَةٌ عَلَى نَقْلِهَا مِنَ الْمُسَوَّدَةِ إِلَى الْمُبْيَضَّةِ، كَذَا قِيلَ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي جَزَرَةَ عَمَّنْ لَقِيَهُ مِنَ الْعَارِفِينَ أَنَّهُ مَا قُرِئَ فِي شِدَّةٍ إِلَّا وَفُرِّجَتْ، وَمَا رُكِبَ بِهِ فِي مَرْكَبٍ فَغَرِقَ، وَأَنَّهُ كَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، وَلَقَدْ دَعَا لِقَارِئِهِ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: وَكَانَ يَسْتَسْقِي بِقِرَاءَتِهِ الْغَيْثَ، قِيلَ: وَيُسَمَّى التِّرْيَاقَ الْمُجَرَّبَ. وَنَقَلَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ عَنْ عَمِّهِ السَّيِّدِ أَصِيلِ الدِّينِ أَنَّهُ قَالَ: قَرَأْتُ الْبُخَارِيَّ مِائَةً وَعِشْرِينَ مَرَّةً لِلْوَقَائِعِ، وَالْمُهِمَّاتِ لِي، وَلِغَيْرِي، فَحَصَلَ الْمُرَادَاتُ، وَقَضَى الْحَاجَاتِ، وَهَذَا كُلُّهُ بِبَرَكَةِ سَيِّدِ السَّادَاتِ، وَمَنْبَعِ السَّادَاتِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَوَاتِ، وَأَكْمَلُ التَّحِيَّاتِ. قِيلَ: وَكَانَ وِرْدُهُ فِي رَمَضَانَ خَتْمَةً فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَثُلُثُهَا فِي سَحَرِ كُلِّ لَيْلَةٍ، وَلَسَعَهُ زُنْبُورٌ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ سِتَّةَ عَشَرَ، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا فَقِيلَ لَهُ: لِمَ لَمْ تَخْرُجْ مِنَ الصَّلَاةِ أَوَّلَ مَا لَسَعَكَ؟ ! قَالَ: كُنْتُ فِي سُورَةٍ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُتِمَّهَا، وَكَانَ يَقُولُ: أَرْجُو اللَّهَ أَنْ لَا يُحَاسِبَنِي أَنِّي مَا اغْتَبْتُ أَحَدًا فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَنْقِمُ عَلَيْكَ التَّارِيخَ ; فَإِنَّهُ غِيبَةٌ فَقَالَ: إِنَّمَا رُوِّينَا ذَلِكَ رِوَايَةً، وَلَمْ نَنْقُلْهُ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِنَا، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ» " قَالَ: وَأَحْفَظُ مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ صَحِيحٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ غَيْرَ صَحِيحٍ، أَيْ: بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ طُرُقِهَا مَعَ عَدِّ الْمُكَرَّرِ، وَالْمَوْقُوفِ، وَآثَارِ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَغَيْرِهِمْ، وَفَتَاوِيهِمْ مِمَّا كَانَ السَّلَفُ يُطْلِقُونَ عَلَى كُلِّهِ حَدِيثًا. وَقِيلَ: كَانَ يَحْفَظُ وَهُوَ صَبِيٌّ سَبْعِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ سَرْدًا، وَيَنْظُرُ فِي الْكِتَابِ نَظْرَةً وَاحِدَةً فَيَحْفَظُ مَا فِيهِ، وَكَانَ يَقُولُ: دَخَلْتُ بِلْخَ فَسَأَلَنِي أَهْلُهَا أَنْ أُمْلِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ مَنْ كَتَبْتُ عَنْهُ، فَأَمْلَيَتُ أَلْفَ حَدِيثٍ عَنْ أَلْفِ شَيْخٍ، وَلِبُلُوغِ نِهَايَتِهِ فِي مَعْرِفَةِ عِلَلِ الْحَدِيثِ كَانَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ يَقُولُ لَهُ: دَعْنِي أُقَبِّلُ رِجْلَيْكَ يَا أُسْتَاذَ الْأُسْتَاذِينَ، وَسَيِّدَ الْمُحَدِّثِينَ، وَيَا طَبِيبَ الْحَدِيثِ فِي عِلَلِهِ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَمْ أَرَ أَحَدًا بِالْعِرَاقِ، وَلَا بِخُرَاسَانَ فِي ذَلِكَ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَكَانَ بِسَمَرْقَنْدَ أَرْبَعُمِائَةِ مُحَدِّثٍ اجْتَمَعُوا تِسْعَةَ أَيَّامٍ لِمُغَالَطَتِهِ، فَخَلَطُوا الْأَسَانِيدَ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ: إِسْنَادُ الشَّامِيِّينَ فِي الْعِرَاقِيِّينَ، وَإِسْنَادُ الْعِرَاقِيِّينَ فِي الشَّامِيِّينَ، وَإِسْنَادُ أَهْلِ الْحَرَمِ فِي الْيَمَانِيِّينَ، وَعَكْسُهُ، وَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ، فَمَا اسْتَطَاعُوا مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَتَغَلَّبُوا عَلَيْهِ سَقْطَةً لَا فِي إِسْنَادٍ، وَلَا فِي مَتْنٍ، وَلَمَّا قَدِمَ بَغْدَادَ فَعَلُوا مَعَهُ نَظِيرَ ذَلِكَ فَعَمَدُوا إِلَى مِائَةِ حَدِيثٍ فَقَلَبُوا مُتُونَهَا، وَأَسَانِيدَهَا، وَدَفَعُوا لِكُلِّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute