وَالْحَائِطُ هُنَا الْبُسْتَانُ مِنَ النَّخْلِ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ جِدَارٌ. (وَالرَّبِيعُ: الْجَدْوَلُ) : هَذَا تَفْسِيرٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ (قَالَ) أَبُو هُرَيْرَةَ (فَاحْتَفَزْتُ) قَالَ النَّوَوِيُّ: رُوِيَ بِالزَّاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَمَعْنَاهُ تَضَامَمْتُ لِيَسَعَنِي الْمَدْخَلُ (فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (أَبُو هُرَيْرَةَ) أَيْ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَأَنْتَ أَبُو هُرَيْرَةَ؟ وَالِاسْتِفْهَامُ إِمَّا عَلَى حَقِيقَتِهِ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ غَائِبًا عَنْ بَشَرِيَّتِهِ بِسَبَبِ إِيحَاءِ هَذِهِ الْبِشَارَةِ فَلَمْ يَشْعُرْ بِأَنَّهُ هُوَ، وَإِمَّا لِلتَّقْرِيرِ وَهُوَ ظَاهِرُ، وَإِمَّا لِلتَّعَجُّبِ لِاسْتِغْرَابِهِ أَنَّهُ مِنْ أَيْنَ دَخَلَ عَلَيْهِ وَالطُّرُقُ مَسْدُودَةٌ (قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ) أَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ (قَالَ: مَا شَأْنُكَ؟) بِالْهَمْزِ، وَيَعْدِلُ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ حَالُكَ، وَمَا سَبَبُ مَأْتَاكَ وَاضْطِرَابِكَ؟ (قُلْتُ: كُنْتُ) أَيْ أَنْتَ (بَيْنَ أَظْهُرِنَا) أَيْ كَانَ ظُهُورُنَا مُسْتَنِدَةً إِلَيْكَ، وَقُلُوبُنَا مُعْتَمِدَةً عَلَيْكَ، وَصُدُورُنَا مُنْشَرِحَةً لَدَيْكَ (فَقُمْتَ) أَيْ عَنَّا (فَأَبْطَأْتَ عَلَيْنَا) وَفَتَحْتَ بَابَ الِاضْطِرَابِ لَدَيْنَا (فَخَشِينَا) : عَلَيْكَ أَوَّلًا، وَعَلَيْنَا ثَانِيًا (أَنْ تُقْتَطَعَ) أَيْ يَقْطَعَكَ أَعْدَاؤُكَ عَنْ أَحْبَابِكَ وَتَهْلَكَ (دُونَنَا) أَيْ مِنْ غَيْرِ اطِّلَاعِنَا، أَوْ دُونَ أَنْ نَهْلَكَ بَيْنَ يَدَيْكَ لِأَجْلِكَ (فَفَزِعْنَا) أَيْ لِذَلِكَ، وَتَسَارَعْنَا إِلَى تَعَرُّفِ خَبَرِكَ (فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَزِعَ) مِنَ الْمُشْتَاقِينَ، وَأَوَّلَ مَنْ قَامَ مِنَ الْخَائِفِينَ (فَأَتَيْتُ هَذَا الْحَائِطَ) بِنَاءً عَلَى ظَنِّي أَنَّكَ فِيهِ (فَاحْتَفَزْتُ) لَمَّا لَمْ أَجِدْ لَهُ بَابًا (كَمَا يَحْتَفِزُ الثَّعْلَبُ) فِي تَحْصِيلِ الْمَطْلَبِ (وَهَؤُلَاءِ النَّاسُ وَرَائِي) أَيْ يَنْتَظِرُونَ عِلْمَ مَا وَقَعَ لَكَ، وَهُوَ اقْتِبَاسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى: {هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: ٨٤] (قَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ) يُقْرَأُ بِالْهَمْزِ وَلَا يُكْتَبُ (وَأَعْطَانِي نَعْلَيْهِ) الْجُمْلَةُ حَالٌ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْبِشَارَةِ لِلْمُحِبِّينَ (قَالَ) تَأْكِيدٌ لِلْأَوَّلِ (اذْهَبْ بِنَعْلَيْ) الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ (هَاتَيْنِ) تَأْكِيدٌ لِلتَّنْبِيهِ، وَلَعَلَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَصَلَ لَهُ التَّجَلِّي الطُّورِيُّ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ النُّورِيِّ فَخَلَعَ النَّعْلَيْنِ، وَأَعْطَى لِأَصْحَابِهِ الْكَوْنَيْنِ، أَوْ إِيمَاءً إِلَى ثَبَاتِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَبَذْلِهِمُ الْجُهْدَ فِي السَّعْيِ إِلَيْهِ بِأَقْدَامِهِمْ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ فَائِدَةَ بِعْثَةِ النَّعْلَيْنِ الدَّلَالَةُ عَلَى صِدْقِهِ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ مَقْبُولًا بِدُونِ ذَلِكَ، وَتَخْصِيصَهَا بِالْإِرْسَالِ إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ غَيْرُهُمَا، وَإِمَّا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ بِعْثَتَهُ وَقُدُومَهُ لَمْ يَكُنْ إِلَّا تَبْشِيرًا وَتَسْهِيلًا عَلَى الْأُمَّةِ، وَرَفْعًا لِلْآصَارِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَإِمَّا لِلْإِشَارَةِ إِلَى ثَبَاتِ الْقَدَمِ وَالِاسْتِقَامَةِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَسْرَارِهِ، وَأَسْرَارِ أَبْرَارِهِ. (فَمَنْ لَقِيَكَ) أَيْ رَآكَ أَوْ رَأَيْتَهُ (مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ) : قَيْدٌ وَاقِعِيٌّ، أَوِ الْمُرَادُ إِيمَانٌ غَيْبِيٌّ يَتَمَيَّزُ بِهِ الْمُخْلِصُ عَنِ الْمُنَافِقِ (يَشْهَدُ) أَيْ حَالَ كَوْنِهِ (أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) : وَيَلْزَمُ مِنْهُ شَهَادَةُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ (مُسْتَيْقِنًا بِهَا) أَيْ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ (قَلْبُهُ) أَيْ مُنْشَرِحًا بِهَا صَدْرُهُ غَيْرَ شَاكٍّ وَمُتَرَدِّدٍ فِي التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ اللَّذَيْنِ هُمَا الْإِيمَانُ الْإِجْمَالِيُّ (فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ) مَعْنَاهُ أَخْبِرْ أَنَّ مَنْ كَانَ هَذِهِ صِفَتُهُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِلَّا فَأَبُو هُرَيْرَةَ لَا يَعْلَمُ اسْتِيقَانَهُمْ، وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ لِمَذْهَبِ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ اعْتِقَادَ التَّوْحِيدِ لَا يَنْفَعُ دُونَ النُّطْقِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ أَوْ عِنْدَ الطَّلَبِ، وَلَا النُّطْقَ دُونَ الِاعْتِقَادِ بِالْإِجْمَاعِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْهُمَا، غَايَتَهُ أَنَّ النُّطْقَ فِيهِ خِلَافٌ أَنَّهُ شَرْطٌ أَوْ شَطْرٌ، وَقَدْ يَسْقُطُ بِعُذْرٍ، وَذِكْرُ الْقَلْبِ هُنَا لِلتَّأْكِيدِ وَنَفْيُ تَوَهُّمِ الْمَجَازِ، وَإِلَّا فَالِاسْتِيقَانُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْقَلْبِ كَقَوْلِهِ: رَأَيْتُ بِعَيْنِي. (فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ لَقِيتُ) أَيْ مِنَ النَّاسِ (عُمَرَ) مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، وَقِيلَ: مَرْفُوعٌ عَلَى الِاسْمِيَّةِ وَ " أَوَّلُ " بِالْعَكْسِ، قِيلَ: وَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّهُ وَصْفٌ وَهُوَ بِالْخَبَرِيَّةِ أَحْرَى (فَقَالَ) مُبَادِرًا (مَا هَاتَانِ النَّعْلَانِ) أَيْ شَأْنُهُمَا وَخَبَرُهُمَا (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قُلْتُ: هَاتَانِ نَعْلَا رَسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَنِي بِهِمَا) حَالَ كَوْنِي قَائِلًا، أَوْ مُبَلِّغًا أَوْ مَأْمُورًا بِأَنَّ (مَنْ لَقِيتُ) أَيْ أَنَا ( «يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ بَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ، فَضَرَبَ عُمَرُ» ) لَا بُدَّ هُنَا مِنْ تَقْدِيرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ مِنَ السِّبَاقِ وَاللَّحَاقِ، يَعْنِي: فَقَالَ عُمَرُ: ارْجِعْ؛ قَصْدًا لِلْمُرَاجَعَةِ بِنَاءً عَلَى رَأْيِهِ الْمُوَافِقِ لِلْكِتَابِ وَنَصِّهِ الْمُطَابِقِ لِلصَّوَابِ، فَأَبَيْتُ وَامْتَنَعْتُ عَنْ حُكْمِهِ امْتِثَالًا لِظَاهِرِ أَمْرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْمُقَدَّمِ عَلَى كُلِّ أَمْرِ آمِرٍ، فَضَرَبَ عُمَرُ بِيَدِهِ (بَيْنَ ثَدْيَيَّ) بِالتَّثْنِيَةِ أَيْ فِي صَدْرِي؛ فَإِنَّهُ يَبْعُدُ كُلَّ الْبُعْدِ ضَرْبُهُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ بَاعِثٍ (فَخَرَرْتُ) بِفَتْحِ الرَّاءِ (لِاسْتِي) هَمْزَةُ وَصْلٍ، أَيْ سَقَطْتُ عَلَى مَقْعَدِي مِنْ شِدَّةِ ضَرْبِهِ لِي (فَقَالَ: ارْجِعْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ) تَأْكِيدًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَيْسَ فِعْلُ عُمَرَ وَمُرَاجَعَتُهُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتِرَاضًا عَلَيْهِ وَرَدًّا لِأَمْرِهِ؛ إِذْ لَيْسَ مَا بَعَثَ بِهِ أَبَا هُرَيْرَةَ إِلَّا لِتَطْيِيبِ قُلُوبِ الْأُمَّةِ وَبُشْرَاهُمْ، فَرَأَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ كَتْمَهُ هَذَا أَصْلَحُ لِئَلَّا يَتَّكِلُوا اهـ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute