مَعْنَاهُ الْقَائِمُ بِأُمُورِ الْخَلْقِ وَمُدَبِّرُهُمْ وَمُدَبِّرُ جَمِيعَ الْعَالَمِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، وَالْقَيُّومُ هُوَ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ الَّذِي يَقُومُ بِهِ كُلُّ مَوْجُودٍ حَتَّى لَا يُتَصَوَّرَ وُجُودُ شَيْءٍ وَلَا دَوَامُ وَجُودِهِ إِلَّا بِهِ. (" وَمَنْ ") : غَلَبَ فِيهِ الْعُقَلَاءُ (" فِيهِنَّ ") ، أَيْ: فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَعْنِي الْعُلْوِيَّاتِ وَالسُّفْلِيَّاتِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ " وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ "، أَيْ: مُنَوِّرُهُمَا أَوْ مُظْهِرُهُمَا، أَوْ خَالِقُ نُورِهِمَا، أَوِ الْمَعْنَى: أَنْتَ الَّذِي بِهِ ظُهُورُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنْتَ الَّذِي بِهِ اسْتَضَاءَ الْكَوْنُ كُلُّهُ وَخَرَجَ مِنْ ظُلْمَةِ الْعَدَمِ إِلَى نُورِ الْوُجُودِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: النُّورُ هُوَ الَّذِي يَبْصُرُ بِنُورِهِ ذُو الْعَمَايَةِ وَيَرْشُدُ بِهُدَاهُ ذُو الْغِوَايَةِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَضَافَ النُّورَ إِلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى سَعَةِ إِشْرَاقِهِ وَثُقُوبِ إِضَاءَتِهِ، وَعَلَى هَذَا فُسِّرَ (اللَّهُ نُورَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أَيْ مُنَوِّرُهُمَا، يَعْنِي: أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ اسْتَنَارَ مِنْهُمَا وَأَضَاءَ فَبِقُدْرَتِكَ وَجُودِكَ، وَالْأَجْرَامُ النَّيِّرَةُ بَدَائِعُ فِطْرَتِكَ وَالْعُقُولُ وَالْحَوَاسُّ خَلْقُكَ وَعَطِيَّتُكَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ، أَيْ يَسْتَضِيئُونَ بِنُورِهِ، وَقَدِ اسْتَغْنَيْنَا عَنْهُ بِقَوْلِ: (" وَمَنْ فِيهِنَّ ") : وَقِيلَ: مَعْنَى النُّورِ: الْهَادِي، وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ إِضَافَةَ الْهِدَايَةِ إِلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَكَادُ تَسْتَقِيمُ بِالتَّقْدِيرِ، وَلَا وَجْهَ لَهُ، وَلِأَنَّ مَنْ فِيهِنَّ يَدْفَعُهُ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ جَعْلِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ شَيْئًا وَاحِدًا، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى نَفْسَهُ النُّورَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: " نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ " وَمِنْ جُمْلَةِ أَسْمَائِهِ النُّورُ، وَسُمِّي بِهِ لِمَا اخْتُصَّ بِهِ مِنْ إِشْرَاقِ الْجَمَالِ وَسُبُحَاتِ الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالِ. اهـ. مَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الطِّيبِيِّ. (" «وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ» ") ، أَيِ: الْمُتَصَرِّفُ فِيهِمَا تَصَرُّفًا كُلِّيًّا مِلَكِيًّا وَمُلْكِيًّا ظَاهِرِيًّا وَبَاطِنِيًّا، لَا نِزَاعَ فِي مِلْكِهِ وَلَا شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ، (" وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ الْحَقُّ ") : لَا خُلْفَ فِي وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ فِي الْإِنْعَامِ وَالِانْتِقَامِ فِي حَقِّ عَبِيدِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: عَرَّفِ الْحَقَّ فِي أَنْتَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَنَكَّرَ فِي الْبَوَاقِي ; لِأَنَّهُ لَا مُنْكِرَ سَلَفًا وَخَلَفًا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الثَّابِتُ الدَّائِمُ الْبَاقِي، وَمَا سِوَاهُ فِي مَعْرِضِ الزَّوَالِ.
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ.
وَكَذَا وَعْدُهُ مُخْتَصٌّ بِالْإِنْجَازِ دُونَ وَعْدِ غَيْرِهِ إِمَّا قَصْدًا وَإِمَّا عَجْزًا، تَعَالَى اللَّهُ عَنْهُمَا، وَالتَّنْكِيرُ فِي الْبَوَاقِي لِلتَّفْخِيمِ. (" وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ ") : الْمُرَادُ بِلِقَاءِ اللَّهِ الْمَصِيرُ إِلَى دَارِ الْآخِرَةِ وَطَلَبُ مَا هُوَ عِنْدَ اللَّهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَدَخَلَ فِيهِ اللِّقَاءُ بِمَعْنَى الرُّؤْيَةِ، وَقَالَ مِيرَكُ: اللِّقَاءُ: الْبَعْثُ أَوْ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ قُلْتَ: ذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْوَعْدِ؟ قُلْتُ: الْوَعْدُ مَصْدَرٌ وَالْمَذْكُورُ بَعْدَهُ هُوَ الْمَوْعُودُ وَهُوَ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ، كَمَا أَنَّ ذِكْرَ الْقَوْلِ بَعْدَ الْوَعْدِ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ فِي قَوْلِهِ: (" وَقَوْلُكَ حَقٌّ ") : فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى الْحَقِّ؟ قُلْتُ: الْمُتَحَقَّقُ الْوُجُودِ الثَّابِتُ بِلَا شَكٍّ فِيهِ، فَإِنْ قُلْتَ: الْقَوْلُ يُوصَفُ بِالصِّدْقِ، وَيُقَالُ: هُوَ صِدْقٌ وَكَذِبٌ، وَلِذَا قِيلَ: الصِّدْقُ هُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْقَوْلِ الْمُطَابِقِ لِلْوَاقِعِ، وَالْحَقُّ بِالنَّظَرِ إِلَى الْوَاقِعِ الْمُطَابِقِ لِلْقَوْلِ؟ قُلْتُ: قَدْ يُقَالُ أَيْضًا: قَوْلٌ ثَابِتٌ، ثُمَّ إِنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ، فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ عَرَّفَ الْحَقَّ فِي الْأُولَيَيْنِ وَنَكَّرَ فِي الْبَوَاقِي؟ قُلْتُ: الْمُعَرَّفُ بِلَامِ الْجِنْسِ وَالنَّكِرَةُ، الْمَسَافَةُ بَيْنَهُمَا قَرِيبَةٌ، بَلْ صَرَّحُوا بِأَنَّ مُؤَدَّاهُمَا وَاحِدٌ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، إِلَّا بِأَنَّ فِي الْمَعْرِفَةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْمَاهِيَّةَ الَّتِي دَخَلَ عَلَيْهَا اللَّامُ مَعْلُومَةٌ لِلسَّامِعِ، وَفِي النَّكِرَةِ لَا إِشَارَةَ إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ إِلَّا مَعْلُومَةً، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَوْلُكَ الْحَقُّ بِالتَّعْرِيفِ أَيْضًا، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: عَرَّفَهُمَا لِلْحَصْرِ، وَذَكَرَ مَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ. (" وَالْجَنَّةُ حَقٌّ ") ، أَيْ: نَعِيمُهَا (" وَالنَّارُ حَقٌّ ") ، أَيْ: جَحِيمُهَا (" وَالنَّبِيُّونَ ") : الَّذِينَ هُمْ أَعَمُّ مِنَ الرُّسُلِ (" حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ ") : (" حَقٌّ ") : قَالَ مِيرَكُ: خَصَّ مُحَمَّدًا بَيْنَ النَّبِيِّينَ وَعَطَفَ عَلَيْهِمْ، إِيذَانًا بِالتَّغَايُرِ، وَأَنَّهُ فَاقَ عَلَيْهِمْ بِأَوْصَافٍ مُخْتَصَّةٍ بِهِ، فَإِنَّ تَغَايُرَ الْوَصْفِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ تَغَايُرِ الذَّاتِ، ثُمَّ تَجَرَّدَ عَنْ ذَاتِهِ كَأَنَّهُ غَيْرُهُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِهِ وَتَصْدِيقُهُ. (" وَالسَّاعَةُ ") ، أَيِ: الْقِيَامَةُ وَمَا فِيهَا مِنَ الْمِيزَانِ وَالصِّرَاطِ وَالْحَوْضِ وَالْحِسَابِ (" حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ ") ، أَيْ: أَذْعَنْتُ لِأَمْرِكَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا (" وَبِكَ آمَنْتُ ") ، أَيْ: صَدَّقْتُ بِكَ وَبِجَمِيعِ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ أَوْ بِكَلَامِكَ، وَبِأَخْبَارِ رَسُولِكَ، أَوْ بِتَوْفِيقِكَ، آمَنْتُ بِمَا آمَنْتَ نَفْسِي مِنْ عَذَابِكَ. (" وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ ") ، أَيِ: اعْتَمَدْتُ فِي أُمُورِي، قَالَ مِيرَكُ، أَيْ فَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ قَاطِعًا لِلنَّظَرِ مِنَ الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ (" وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ ") ، أَيْ: رَجَعْتُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِي، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute