تَفَكَّرُوا فِي قِيَامِهِ مِنْ مَقَامِ الرَّاحَةِ، (" ثَارَ عَنْ فِرَاشِهِ وَوِطَائِهِ ") ، أَيْ: تَبَاعَدَ عَنْهُمَا (" مِنْ بَيْنِ حِبِّهِ وَأَهْلِهِ ") ، أَيْ: مُنْفَرِدًا مِنْهُمْ وَمِنِ اتِّفَاقِهِمْ، وَمُعْتَزِلًا عَنِ اقْتِرَابِهِمْ وَاعْتِنَاقِهِمْ، (" إِلَى صَلَاتِهِ ") ، أَيِ: الَّتِي تَنْفَعُهُ فِي حَيَاتِهِ وَمَمَاتِهِ (" رَغْبَةً ") ، أَيْ: لَا رِيَاءً وَسُمْعَةً بَلْ مَيْلًا (" فِيمَا عِنْدِي ") ، أَيْ: مِنَ الْجَنَّةِ وَالثَّوَابِ، أَوْ مِنَ الرِّضَا وَاللِّقَاءِ يَوْمَ الْمَآبِ. (" وَشَفَقًا ") ، أَيْ: خَوْفًا (" مِمَّا عِنْدِي ") : مِنَ الْجَحِيمِ وَأَنْوَاعِ الْعَذَابِ، أَوْ مِنَ السُّخْطِ وَالْحِجَابِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ مِنَ الْعِقَابِ، وَهَذَا غَايَةُ الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ، فَإِنَّهُ قَامَ بِالْعِبَادَةِ فِي وَقْتِ رَاحَةِ النَّاسِ فِي الْعَادَةِ مَعَ عَدَمِ التَّكْلِيفِ الْإِلَهِيِّ، فَيَكُونُ مِنْ عَلَامَةِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَلِذَا قَدَّمَهُ وَعَطَفَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (" وَرَجُلٍ ") : بِالْوَجْهَيْنِ (" غَزَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ") ، أَيْ: حَارَبَ أَعْدَاءَ اللَّهِ (" فَانْهَزَمَ ") ، أَيْ: غُلِبَ وَهَرَبَ (" مَعَ أَصْحَابِهِ فَعَلِمَ مَا عَلَيْهِ ") ، أَيْ: مِنَ الْإِثْمِ أَوْ مِنَ الْعَذَابِ (" فِي الِانْهِزَامِ ") : إِذَا كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ لَهُ فِي الْمَقَامِ (" وَمَا لَهُ ") ، أَيْ: وَعَلِمَ مَا لَهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ (" فِي الرُّجُوعِ ") ، أَيْ: فِي الْإِقْبَالِ عَلَى مُحَارَبَةِ الْكُفَّارِ، وَلَوْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الْعَدَدِ وَأَقْوَى مِنْهُ فِي الْعُدَدِ، (" فَرَجَعَ ") ، أَيْ: حِسْبَةً لِلَّهِ وَجَاهَدَ (" حَتَّى هُرِيقَ ") ، أَيْ: صُبَّ (" دَمُهُ ") : يَعْنِي: قُتِلَ. وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: ذَاكِرُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْغَافِلِينَ بِمَنْزِلَةِ الصَّابِرِ فِي الْفَارِّينَ. رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَبِهِ يَظْهَرُ كَمَالُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، (" فَيَقُولُ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ ") ، أَيِ: الْمُقَرَّبِينَ (" انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي ") ، أَيْ: نَظَرَ تَعَجُّبٍ (" رَجَعَ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي، وَشَفَقًا مِمَّا عِنْدِي ") ، أَيْ: مِنَ الْعِقَابِ (" حَتَّى هُرِيقَ دَمُهُ ") ، أَيْ: عَلَى طَرِيقِ الصَّوَابِ. (رَوَاهُ) : صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) ، أَيْ: بِإِسْنَادِهِ، قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ فِيهِ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، وَرَوَى لَهُ الْأَرْبَعَةُ وَالْبُخَارِيُّ مُتَابَعَةً، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ. اهـ.
وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي التَّرْغِيبِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا مَوْقُوفًا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَلَفْظُهُ: «إِنَّ اللَّهَ يَضْحَكُ إِلَى رَجُلَيْنِ. رَجُلٌ قَامَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ عَنْ فِرَاشِهِ وَلِحَافِهِ وَدِثَارِهِ، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ فَيَقُولُ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: مَا حَمَلَ عَبْدِي هَذَا عَلَى مَا صَنَعَ؟ فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا جَاءَ لِمَا عِنْدَكَ وَشَفَقًا مِمَّا عِنْدَكَ، فَيَقُولُ: إِنِّي أَعْطَيْتُهُ مَا رَجَا، وَأَمَّنْتُهُ مِمَّا يَخَافُ» ، وَذَكَرَ بَقِيَّتَهُ.
وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعَمَلَ لِلَّهِ مَعَ رَجَاءِ الثَّوَابِ الَّذِي رَتَّبَهُ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَطَلَبُ حُصُولِهِ لَا يُنَافِي الْإِخْلَاصَ وَالْكَمَالَ، وَإِنْ نَافَى الْأَكْمَلَ، وَهُوَ الْعَمَلُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِغَرَضٍ وَلَا لِعِوَضٍ، وَأَمَّا قَوْلُ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ عَنِ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ مَنْ عَبَدَ لِأَجْلِ الثَّوَابِ أَوْ لِخَوْفِ الْعِقَابِ لَمْ تَصِحَّ عِبَادَتُهُ، فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُهُ بِأَنَّهُ مَحْضُ عَمَلِهِ لِذَلِكَ، بِحَيْثُ لَوْ خَلَا عَنْ ذَلِكَ لَانْتَفَتْ عِبَادَتُهُ، وَحِينَئِذٍ لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ عِبَادَتُهُ، بَلْ قِيلَ: إِنَّهُ يَكْفُرُ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ لِذَاتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute