(فَصَلَّى فِيهَا) ، أَيْ: فِي تِلْكَ الْحُجْرَةِ (لَيَالِيَ) ، أَيْ: مِنْ رَمَضَانَ (حَتَّى اجْتَمَعَ) ، أَيْ: فَكَانَ يَخْرُجُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْهَا وَيُصَلِّي بِالْجَمَاعَةِ فِي الْفَرَائِضِ وَالتَّرَاوِيحِ، حَتَّى اجْتَمَعَ (عَلَيْهِ نَاسٌ) ، أَيْ: وَكَثُرُوا، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ هَاهُنَا: فَأْتَمُّوا بِهِ، مُوهِمٌ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ وَقَعَ بِهِ، وَهُوَ فِي دَاخِلِ الْحُجْرَةِ، وَهُوَ مَحَلُّ بَحْثٍ وَيَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ صَحِيحٍ. (ثُمَّ فَقَدُوا صَوْتَهُ) ، أَيْ: حِسَّهُ (لَيْلَةً) : بِأَنْ دَخَلَ الْحُجْرَةَ بَعْدَمَا صَلَّى بِهِمُ الْفَرِيضَةَ، وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ بَعْدَ سَاعَةٍ لِلتَّرَاوِيحِ كَمَا هُوَ عَادَتُهُ، (وَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ نَامَ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَتَنَحْنَحُ) : فِيهِ دَلِيلٌ لِمَا اعْتِيدَ فِي بَعْضِ النَّوَاحِي مِنَ التَّنَحْنُحِ إِشَارَةً إِلَى الِاسْتِئْذَانِ فِي دُخُولِهِ، أَوْ إِلَى الْإِعْلَامِ بِوُجُودِ الْمُتَنَحْنِحِ بِالْبَابِ، أَوْ بِطَلَبِهِ خُرُوجَ مَنْ قَصَدَهُ إِلَيْهِ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ، (لِيَخْرُجَ) ، أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحُجْرَةِ (إِلَيْهِمْ) : لِصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ فِيهَا كَمَا فِي اللَّيَالِي الْمَاضِيَةِ. (فَقَالَ) ، أَيْ: وَهُوَ فِيهَا أَوِ التَّقْدِيرُ فَخَرَجَ، فَقَالَ: (مَا زَالَ بِكُمُ الَّذِي رَأَيْتُ) : بِكُمْ: خَبَرُ زَالَ قُدِّمَ عَلَى الِاسْمِ وَهُوَ الْمَوْصُولُ بِصِلَتِهِ، أَيْ أَبَدًا ثَبَتَ بِكُمُ الَّذِي رَأَيْتُ (مِنْ صَنِيعِكُمْ) : مِنْ شِدَّةِ حِرْصِكُمْ فِي إِقَامَةِ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ بِالْجَمَاعَةِ، وَ (مِنْ) بَيَانٌ لِلَّذِي (حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ) ، أَيْ: يُفْرَضَ (عَلَيْكُمْ) ، أَيْ: لَوْ وَاظَبْتُ عَلَى إِقَامَتِهَا بِالْجَمَاعَةِ لَفُرِضَتْ عَلَيْكُمْ، (وَلَوْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ) ، أَيْ: ذَلِكَ (مَا قُمْتُمْ بِهِ) : وَلَمْ تُطِيقُوهُ بِالْجَمَاعَةِ كُلُّكُمْ لِعَجْزِكُمْ، وَفِيهِ بَيَانُ رَأْفَتِهِ لِأُمَّتِهِ، وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّرَاوِيحَ سُنَّةٌ جَمَاعَةً وَانْفِرَادًا، وَالْأَفْضَلُ فِي عَهْدِنَا الْجَمَاعَةُ لِكَسَلِ النَّاسِ، قِيلَ: وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ فَرِيضَةٌ ; لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةَ وَاظَبُوا عَلَيْهَا، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَكُونَ افْتِرَاضُهَا مُعَلَّقًا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ عَلَى دَوَامِ إِظْهَارِهَا جَمَاعَةً اهـ. وَضَعْفُهُ ظَاهِرٌ.
(فَصَلُّوا، أَيُّهَا النَّاسُ) : أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ (فِي بُيُوتِكُمْ) : فَإِنَّهَا مُعَدَّةٌ لِلنَّوَافِلِ لِكَوْنِهَا أَبْعَدَ مِنَ الرِّيَاءِ، (فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلَاةِ الْمَرْءِ) : وَهَذَا عَامٌّ لِجَمِيعِ النَّوَافِلِ وَالسُّنَنِ إِلَّا النَّوَافِلَ الَّتِي مِنْ شِعَارِ الْإِسْلَامِ، كَالْعِيدِ، وَالْكُسُوفِ، وَالِاسْتِسْقَاءِ. (فِي بَيْتِهِ) : خَبَرُ إِنَّ، أَيْ: صَلَاتُهُ فِي بَيْتِهِ. (إِلَّا الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ) ، أَيِ: الْمَفْرُوضَةُ فَإِنَّهَا فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَبِهِ أَخَذَ أَئِمَّتُنَا فَقَالُوا: يُسَنُّ فِعْلُ النَّوَافِلِ الَّتِي لَا تُسَنُّ فِيهَا الْجَمَاعَةُ فِي الْبَيْتِ، فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَوِ الْكَعْبَةَ وَالرَّوْضَةَ الشَّرِيفَةَ ; لِأَنَّ فَضِيلَةُ الِاتِّبَاعِ تَرْبُو عَلَى فَضِيلَةِ الْمُضَاعَفَةِ، وَلِتَعُودَ بَرَكَتُهَا عَلَى الْبَيْتِ، وَلِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ الرِّيَاءِ وَإِنْ خَلَا الْمَسْجِدُ اهـ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكَعْبَةَ وَالرَّوْضَةَ الشَّرِيفَةَ تُسْتَثْنَيَانِ لِلْغُرَبَاءِ لِعَدَمِ حُصُولِهِمَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، فَتُغْتَنَمُ الصَّلَاةُ فِيهِمَا قِيَاسًا عَلَى مَا قَالَهُ أَئِمَّتُنَا: إِنَّ الطَّوَافَ لِلْغُرَبَاءِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ النَّافِلَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ، قَالَهُ مِيرَكُ.
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ، فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى مِنَ الْقَابِلَةِ فَكَثُرَ النَّاسُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ الثَّالِثَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: " قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ فَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ يُفْتَرَضَ عَلَيْكُمْ " وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ» ، وَزَادَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ: فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَاسْتَمَرُّوا كَذَلِكَ زَمَنَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَزَمَنَ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، ثُمَّ جَمَعَ عُمَرُ الرِّجَالَ عَلَى أُبَيٍّ، وَالنِّسَاءَ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ أَمَرَ أُبَيًّا وَتَمِيمًا أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ، فَكَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ بِالْمِائَتَيْنِ حَتَّى كُنَّا نَعْتَمِدُ عَلَى الْعَصَا مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ فِي جَمْعِهِ النَّاسَ عَلَى جَمَاعَةٍ وَاحِدَةٍ نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هِيَ، وَإِنَّمَا سَمَّاهَا بِدْعَةً بِاعْتِبَارِ صُورَتِهَا، فَإِنَّ هَذَا الِاجْتِمَاعَ مُحْدَثٌ بَعْدَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ فَلَيْسَتْ بِدْعَةً ; لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِصَلَاتِهَا فِي بُيُوتِهِمْ لِعِلَّةٍ هِيَ خَشْيَةُ الِافْتِرَاضِ، وَقَدْ زَالَتْ بِمَوْتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَلَمْ يَأْمُرْ بِهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ كَانَ مَشْغُولًا بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ عُمَرُ أَوَائِلَ خِلَافَتِهِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّحِيحُ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِيهَا أَفْضَلُ، بَلِ ادَّعَى بَعْضُهُمُ الْإِجْمَاعَ فِيهِ، أَيْ: إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ، وَخَالَفَهُ الْبَيْهَقِيُّ فَقَالَ: لَمْ يُجْمِعُوا عَلَيْهَا كُلُّهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ، وَقِيلَ: الِانْفِرَادُ فِيهَا أَفْضَلُ. قَالُوا: وَمَحَلُّهُ فِيمَنْ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ وَلَا يَخَافُ النَّوْمَ وَالْكَسَلَ وَلَا تَخْتَلُّ جَمَاعَةُ الْمَسْجِدِ بِفَقْدِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute