للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

أَقُولُ: عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ النَّقْلِ عَنْهُمَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عَلَيْهِمَا لِعَدَمِ وُجُودِ النِّصَابِ عِنْدَهُمَا، وَتَرَكَاهَا كَرَاهَةَ أَنْ يُرَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ حَتَّى عَلَى الْفُقَرَاءِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ تَرَكُوا السُّنَّةَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ الْوُجُوبُ، فَإِنَّ هَذَا وَظِيفَةُ الشَّارِعِ حَيْثُ يَتْرُكُ الشَّيْءَ تَارَةً لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَلِلْعِلْمِ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ، وَأَيْضًا هَذِهِ الْعِلَّةُ لَا تُعْلَمُ إِلَّا مِنْ قِبَلِهِمَا لِأَنَّهَا نَاشِئَةٌ مِنْ قِبَلِهِمَا. نَعَمْ لَوْ صَرَّحَا بِهَا لَكَانَ يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ فِي الْجُمْلَةِ، فَكَانَ لَنَا أَنْ نَقُولَ مُرَادُهُمَا بِالْوُجُوبِ الْفَرْضِيَّةُ، إِذِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوُجُوبِ حَادِثٌ بَعْدَهُمَا، وَنَحْنُ نَقُولُ بِعُلُومِ الْفَرْضِيَّةِ لِفِقْدَانِ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ، وَيَكْفِي لِلْوُجُوبِ بَعْضُ الْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهَذَا مُبْهَمٌ أَيْضًا، فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَ: سُنَّةٌ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا ثَابِتَةٌ بِالسُّنَّةِ، فَلَا تُنَافِي الْوُجُوبَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَذْهَبُهُ، وَهَذَا لَا يَضُرُّنَا لِأَنَّا مَا ادَّعَيْنَا الْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِهَا، ثُمَّ قَالَ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَذَهَبَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ وُجُوبَهَا عَلَى مَنْ مَلَكَ نِصَابًا، وَالصَّوَابُ أَنَّ هُنَا قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا قَوْلَ الْأَصْحَابِ، ثُمَّ قَالَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ( «عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَيْتٍ فِي كُلِّ عَامِ» ) ضَحِيَّةٌ وَعَتِيرَةٌ وَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ.

أَقُولُ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ حَسَنٌ كَمَا سَيَأْتِي، مَعَ أَنَّ أَخْذَ الْمُجْتَهِدِ لَهُ يَدُلُّ عَلَى قُوَّتِهِ، وَلَا يَضُرُّ ضَعْفٌ حَدَثَ بِالْحَدِيثِ بَعْدَهُ، ثُمَّ قَالَ: مَعَ أَنَّ الْعَتِيرَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ بِالِاتِّفَاقِ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ.

قُلْتُ: وَلَا سُنَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ ; لِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ كَمَا قَالَ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسْخُ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ أَيْضًا، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ «نَسَخَ الْأَضْحَى كُلَّ ذَبْحٍ» وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (فَلَا يَمَسُّ) : بِضَمِّ السِّينِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: بِالْقَطْعِ وَالْإِزَالَةِ. (مِنْ شَعَرِهِ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتُسَكَّنُ. (وَبَشَرِهِ) : بِفَتْحَتَيْنِ. (شَيْئًا) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْهُمَا لِلتَّشَبُّهِ بِحُجَّاجِ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ الْمُحْرِمِينَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: الْمُضَحِّي يَرَى نَفْسَهُ مُسْتَوْجِبَةً لِلْعِقَابِ وَهُوَ الْقَتْلُ، وَلَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ فَفَدَاهَا بِالْأُضْحِيَّةِ، وَصَارَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهَا فِدَاءَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ، فَلِذَلِكَ نُهِيَ عَنْ مَسِّ الشَّعْرِ وَالْبَشَرِ ; لِئَلَّا يُفْقَدَ مِنْ ذَلِكَ قِسْطٌ مَا عِنْدَ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ، وَفَيَضَانِ النُّورِ الْإِلَهِيِّ، لِيَتِمَّ لَهُ الْفَضَائِلُ، وَيَتَنَزَّهَ عَنِ النَّقَائِصِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَعْنَى هُنَا التَّشَبُّهُ بِالْحُجَّاجِ غَلَّطُوهُ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ طَلَبُ الْإِمْسَاكِ عَنْ نَحْوِ الطِّيبِ وَلَا قَائِلَ بِهِ اهـ.

وَهُوَ غَلَطٌ فَاحِشٌ مِنْ قَائِلِهِ ; لِأَنَّ التَّشَبُّهَ لَا يَلْزَمُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَقَدْ وَجَّهَ تَوْجِيهًا حَسَنًا قِي خُصُوصِ اجْتِنَابِ قَطْعِ الشَّعْرِ أَوِ الظُّفْرِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: الْمُرَادُ بِالْبَشَرِ هُنَا الظُّفْرُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ دَلَّتَا عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَالْبَشَرُ ظَاهِرُ جِلْدِ الْإِنْسَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ ; لِأَنَّهُ قَدْ يُقَشِّرُ مِنْ جِلْدِهِ شَيْئًا إِذَا احْتِيجَ إِلَى تَقْشِيرِهِ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ.

وَأَغْرَبَ ابْنُ الْمَلَكِ حَيْثُ قَالَ: أَيْ: فَلَا يَمَسُّ مِنْ شَعْرِ مَا يُضَحِّي بِهِ، وَبَشَرِهِ أَيْ ظُفْرِهِ وَأَرَادَ بِهِ الظِّلْفَ، ثُمَّ قَالَ: ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، فَمَنَعُوا مِنْ أَخْذِ الشَّعْرِ وَالظُّفْرِ مَا لَمْ يُذْبَحْ، وَكَانَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يَرَيَانِ ذَلِكَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَرَخَّصَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْأَصْحَابُ اهـ. وَفِي عِبَارَتِهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الِاسْتِغْرَابِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ خِلَافِيَّةٌ، فَالْمُسْتَحَبُّ لِمَنْ قَصَدَ أَنْ يُضَحِّيَ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنْ لَا يَحْلِقَ شَعْرَهُ، وَلَا يُقَلِّمَ ظُفْرَهُ حَتَّى يُضَحِّيَ، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ مَكْرُوهًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ مُبَاحٌ، وَلَا يُكْرَهُ، وَلَا يُسْتَحَبُّ. وَقَالَ أَحْمَدُ: بِتَحْرِيمِهِ كَذَا فِي رَحْمَةِ الْأُمَّةِ فِي اخْتِلَافِ الْأَئِمَّةِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ شُرَّاحِ الْحَدِيثِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: رَخَّصَ. أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّنْزِيهِ فَخِلَافُهُ خِلَافُ الْأَوْلَى، وَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ.

(وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَا يَأْخُذَنَّ) : بِنُونِ التَّأْكِيدِ أَيْ: لَا يُزِيلَنَّ. (شَعْرًا، وَلَا يُقَلِّمَنَّ) : بِكَسْرِ اللَّامِ مَعَ فَتْحِ الْيَاءِ وَقِيلَ بِالتَّثْقِيلِ أَيْ: لَا يَقْطَعَنَّ. (ظُفُرًا) : بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَبِالْكَسْرِ شَاذٌّ أَيْ: لُغَةً ; لِأَنَّ سُكُونَ الثَّانِي شَاذٌّ قِرَاءَةً، وَقَرَأَ بِهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: ١٤٦] . (وَفِي رِوَايَةٍ: وَمَنْ رَأَى هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ) أَيْ: أَبْصَرَهُ أَوْ عَلِمَهُ. (وَأَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلَا يَأْخُذْ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>