آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ» ) أَيِ: اعْبُدُوهُ، وَأَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ الصَّلَاةُ، وَالْأَمْرُ لِلِاسْتِحْبَابِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَاخْتَارَ فِي الْأَسْرَارِ وُجُوبَهَا لِلْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ فَافْزَعُوا إِلَى الصَّلَاةِ» . قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِنَّمَا أَمَرَ بِالدُّعَاءِ ; لِأَنَّ النُّفُوسَ عِنْدَ مُشَاهَدَةٍ مَا هُوَ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ تَكُونُ مُعْرِضَةً عَنِ الدُّنْيَا وَمُتَوَجِّهَةً إِلَى الْحَضْرَةِ الْعُلْيَا، فَتَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى الْإِجَابَةِ. (وَكَبِّرُوا) أَيْ: عَظِّمُوا الرَّبَّ أَوْ قُولُوا: اللَّهُ أَكْبَرُ ; فَإِنَّهُ يُطْفِئُ نَارَ الرَّبِّ. (وَصَلُّوا) أَيْ: صَلَاةَ الْكُسُوفِ أَوِ الْخُسُوفِ. (وَتَصَدَّقُوا) : بِالتَّرَحُّمِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَغْنِيَاءَ وَالْمُتَنَعِّمِينَ هُمُ الْمَقْصُودُ بِالتَّخْوِيفِ مِنْ بَيْنِ الْعَالَمِينَ لِكَوْنِهِمْ غَالِبًا لِلْمَعَاصِي مُرْتَكِبِينَ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْفِقْرَةِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ. (ثُمَّ قَالَ: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ) : فِيهِ ذِكْرُ الْبَاعِثِ لَهُمْ عَلَى الِامْتِثَالِ، وَهُوَ نِسْبَتُهُمْ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (وَاللَّهِ، مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ) : بِالْفَتْحِ، وَقِيلَ بِالرَّفْعِ. أَيِ: أَشَدُّ غَيْرَةً. (مِنَ اللَّهِ) : وَالْغَيْرَةُ فِي الْأَصْلِ كَرَاهَةُ شَرِكَةِ الْغَيْرِ فِي حَقِّهِ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى كَرَاهَةُ مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. (أَنْ يَزْنِيَ) : مُتَعَلِّقٌ بِأَغْيَرَ أَيْ: عَلَى أَنْ يَزْنِيَ. (عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ) أَيْ: عَلَى زِنَا عَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ، فَإِنَّ غَيْرَتَهُ تَعَالَى وَكَرَاهِيَتَهُ ذَلِكَ أَشَدُّ مِنْ غَيْرَتِكُمْ وَكَرَاهِيَتِكُمْ عَلَى زِنَا عَبْدِكُمْ وَأَمَتِكُمْ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: أَنْ يَزْنِيَ مُتَعَلِّقٌ بِأَغْيَرَ، وَحَذْفُ الْجَارِّ مِنْ (أَنْ) مُسْتَمِرٌّ، وَنِسْبَةُ الْغَيْرَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَجَازٌ مَحْمُولٌ عَلَى غَايَةِ إِظْهَارِ غَضَبِهِ عَلَى الزَّانِي، وَإِنْزَالِ نَكَالِهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: لِوَجْهِ اتِّصَالِهِ بِمَا قَبْلَهُ لَمَّا خَوَّفَ أُمَّتَهُ مِنَ الْخُسُوفَيْنِ، وَحَرَّضَهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ وَالِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ بِالتَّكْبِيرِ وَالدُّعَاءِ، وَالصَّلَاةِ وَالتَّصَدُّقِ، أَرَادَ أَنْ يَرْدَعَهُمْ عَنِ الْمَعَاصِي كُلِّهَا، فَخَصَّ مِنْهَا الزِّنَا، وَفَخَّمَ شَأْنَهُ، وَنَدَبَ أُمَّتَهُ بِقَوْلِهِ: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَنَسَبَ الْغَيْرَةَ إِلَى اللَّهِ.
وَلَعَلَّ تَخْصِيصَ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ رِعَايَةٌ لِحُسْنِ الْأَدَبِ ; لِأَنَّ الْغَيْرَةَ أَصْلُهَا أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِي الْأَهْلِ وَالزَّوْجِ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نِسْبَةُ الْغَيْرَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ الْمُصَرِّحَةِ لِتَبَعِيَّةِ شِبْهِ حَالِ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ مَعَ عَبْدِهِ الزَّانِي مِنَ الِانْتِقَامِ، وَحُلُولِ الْعِقَابِ بِحَالِ مَا يَفْعَلُ السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ الزَّانِي مِنَ الزَّجْرِ وَالتَّعْزِيرِ، ثُمَّ كَرَّرَ النُّدْبَةَ لِيُعَلِّقَ بِهِ مَا يُنَبَّهُ بِهِ عَلَى سَبَبِ النُّدْبَةِ، وَالْفَزَعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ عِلْمٍ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِغَضَبِهِ فَقَالَ: (يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ) : مِنْ غَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى وَغُفْرَانِهِ، أَوْ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْآخِرَةِ وَعَجَائِبِ شَأْنِهِ. (لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا) أَيْ: زَمَانًا قَلِيلًا، أَوْ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، وَقِيلَ: الْقِلَّةُ هُنَا بِمَعْنَى الْعَدَمِ. (وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute