فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى) : أَوْرَدَ الْمُؤَلِّفُ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ تَأْيِيدًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «رِيَاحًا وَرِيحًا» ، فَقَوْلُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَقَوْلُهُ: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ: إِلَخْ مُبْتَدَأٌ بِتَقْدِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الرِّيَاحَ بِالْجَمْعِ لِلْخَيْرِ، وَالرِّيحَ بِالْإِفْرَادِ لِلشَّرِّ، وَالْجُمْلَةُ مَقُولُ الْقَوْلِ: {رِيحًا صَرْصَرًا} [فصلت: ١٦] . أَيْ: شَدِيدُ الْبَرْدِ. وَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ: بِكَسْرِ الْهَاءِ وَضَمِّ الْمِيمِ، وَبِكَسْرِهِمَا وَضَمِّهِمَا وَصْلًا {الْعَقِيمَ} [الذاريات: ٤١] أَيْ: مَا لَيْسَ فِيهِ خَيْرٌ، {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ} [الحجر: ٢٢] : تَفَرَّدَ حَمْزَةُ بِتَوْحِيدِهِ، {لَوَاقِحَ} [الحجر: ٢٢] . جَمْعُ لَاقِحَةٍ، بِمَعْنَى تُلَقِّحُ الْأَشْجَارَ وَتَجْعَلُهَا حَامِلَةً بِالْأَثْمَارِ، أَنْ يُرْسِلَ: هَذَا أَصْلٌ صَحِيحٌ مُوَافِقٌ لِمَا فِي الْقُرْآنِ، وَمُطَابِقٌ لِمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَأَمَّا فِي بَعْضِ الْأُصُولِ وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَصْلُ السَّيِّدِ: وَأَرْسَلْنَا فَهُوَ خَطٌّ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ الْقُرْآنُ. الرِّيَاحَ: لَا خِلَافَ فِي جَمْعِهِ، وَوَهِمَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ حَيْثُ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي ثَانِيهِ {مُبَشِّرَاتٍ} [الروم: ٤٦] وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ: قَالَ الطِّيبِيُّ: مُعْظَمُ الشَّارِحِينَ عَلَى أَنَّ تَأْوِيلَ ابْنِ عَبَّاسٍ غَيْرُ مُوَافِقٍ لِلْحَدِيثِ، نَقَلَ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيِّ: أَنَّهُ ضَعَّفَ هَذَا الْحَدِيثَ جِدًّا، وَأَبَى أَنْ يَكُونَ لَهُ أَصْلٌ فِي السُّنَنِ، وَأَنْكَرَ عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ تَفْسِيرَهُ كَمَا فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ، ثُمَّ اسْتَشْهَدَ أَيِ: الطَّحَاوِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} [يونس: ٢٢] الْآيَةَ. وَبِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَإِنَّ جُلَّ اسْتِعْمَالِ الرِّيحِ الْمُفْرَدَةِ فِي الْبَابِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، ثُمَّ قَالَ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ: وَالَّذِي قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ وَإِنْ كَانَ قَوْلًا مَتِينًا فَإِنَّا نَرَى أَنْ لَا نَتَسَارَعَ إِلَى رَدِّ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ تَيَسَّرَ عَلَيْنَا تَأْوِيلُهُ وَنُخْرِجُ الْمَعْنَى عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِلنُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ أَنْ نَقُولَ التَّضَادَّ الَّذِي جَدَّ أَبُو جَعْفَرٍ فِي الْهَرَبِ مِنْهُ: إِنَّمَا نَشَأَ مِنَ التَّأْوِيلِ الَّذِي نَقَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ نَفْسُهُ فَإِنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِتَأْوِيلٍ يُمْكِنُ مَعَهُ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النُّصُوصِ الَّتِي عَارَضَهُ بِهَا أَبُو جَعْفَرٍ، وَذَلِكَ أَنْ نَذْهَبَ فِي الْحَدِيثِ إِلَى أَنَّهُ سَأَلَ النَّجَاةَ مِنَ التَّدْمِيرِ بِتِلْكَ الرِّيحِ، فَإِنَّهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ مُهْلِكَةً لَمْ يَعْقُبْهَا أُخْرَى، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَلِكَ فَإِنَّهَا تُوجَدُ كَرَّةً بَعْدَ كَرَّةٍ، وَنَسْتَنْشِقُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَكَأنَّهُ قَالَ: لَا تُدَمِّرْنَا بِهَا، فَلَا تُمِرَّ عَلَيْنَا بَعْدَهَا، وَلَا تَهُبُّ دُونَنَا جَنُوبٌ وَلَا شَمَالٌ، بَلْ أَفْسِحْ فِي الْمُدَّةِ حَتَّى تَهُبَّ عَلَيْنَا أَرْوَاحٌ كَثِيرَةٌ بَعْدَ هَذِهِ الرِّيحِ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّ الرِّيَاحَ إِذَا كَثُرَتْ جَلَبَتِ السَّحَابَ، وَكَثُرَتِ الْأَمْطَارُ، فَزَكَتِ الزُّرُوعُ وَالْأَشْجَارُ، وَإِذَا لَمْ تَكْثُرْ وَكَانَتْ رِيحًا وَاحِدَةً، فَإِنَّهَا تَكُونُ عَقِيمَةً، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: لَا تَلْقَحُ السَّحَابُ إِلَّا مِنْ رِيَاحٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَى كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُطَابِقٌ لِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ اسْتِعْمَالَ التَّنْزِيلِ دُونَ أَصْحَابِ اللُّغَةِ إِذَا حُكِمَ عَلَى الرِّيحِ وَالرِّيَاحِ مُطْلَقَيْنِ. كَانَ إِطْلَاقُ الرِّيحِ غَالِبًا فِي الْعَذَابِ وَالرِّيَاحِ فِي الرَّحْمَةِ، فَعَلَى هَذَا لَا تُرَدُّ تِلْكَ الْآيَةُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ; لِأَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِالْوَصْفِ، وَلَا تِلْكَ الْأَحَادِيثُ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا قُيِّدَتِ الْآيَةُ بِالْوَصْفِ وَوُحِّدَتْ ; لِأَنَّهَا فِي حَدِيثِ الْفُلْكِ وَجَرَيَانِهَا فِي الْبَحْرِ، فَلَوْ جُمِعَتْ لَأَوْهَمَتِ اخْتِلَافَ الرِّيَاحِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْعَطَبِ أَوِ الِاحْتِبَاسِ، وَلَوْ أُفْرِدَتْ وَلَمْ تُقَيَّدْ بِالْوَصْفِ لَآذَنَتْ بِالْعَذَابِ وَالدَّمَارِ، وَلِأَنَّهَا أُفْرِدَتْ وَكُرِّرَتْ لِيُنَاطَ بِهِ مَرَّةً طَيِّبَةٌ وَأُخْرَى عَاصِفٌ، وَلَوْ جُمِعَتْ لَمْ يَسْتَقِمِ التَّعَلُّقُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute