أَيْ: رُوحُهُ الظَّاهِرُ أَنَّهَا تَعْنِي أَبَاهَا الْبَرَاءَ، ثُمَّ رَأَيْتُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَلَدُهَا بِشْرٌ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي لَبِيبَةَ قَالَ: «لَمَّا مَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ وَجَدَتْ أُمُّهُ وَجْدًا شَدِيدًا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا يَزَالُ الْهَالِكُ يَهْلِكُ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَهَلْ تَتَعَارَفُ الْمَوْتَى فَأُرْسِلَ إِلَى بِشْرٍ بِالسَّلَامِ؟ قَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُمْ يَتَعَارَفُونَ كَمَا يَتَعَارَفُ الطَّيْرُ فِي رُءُوسِ الْأَشْجَارِ» ، وَكَانَ لَا يَهْلِكُ هَالِكٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ إِلَّا جَاءَتْهُ أُمُّ بِشْرٍ فَقَالَتْ: يَا فُلَانُ، عَلَيْكَ السَّلَامُ. فَيَقُولُ: وَعَلَيْكِ، فَتَقُولُ: اقْرَأْ عَلَى بِشْرٍ مِنِّي السَّلَامَ. (فَاقْرَأْ عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَفِي رِوَايَةٍ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ. (فَقَالَ) أَيْ لَهَا كَمَا فِي رِوَايَةٍ: (غَفَرَ اللَّهُ لَكِ يَا أُمَّ بِشْرٍ، نَحْنُ أَشْغَلُ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَمَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ فِي طَيْرٍ خُضْرٍ» ) ؟ قَالَ الطِّيبِيُّ: جَوَابٌ عَنِ اعْتِذَارِهِ بِقَوْلِهِ: نَحْنُ أَشْغَلُ أَيْ: لَسْتُ مَنْ يُشْغَلُ عَمَّا كَلَّفْتُكَ، بَلْ أَنْتَ مِمَّنْ قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْتَ وَكَيْتَ. (تَعْلُقُ) بِضَمِّ اللَّامِ. (بِشَجَرِ الْجَنَّةِ) أَيْ: تَتَعَلَّقُ بِأَشْجَارِهَا، وَتُمَتَّعُ بِأَثْمَارِهَا، وَفِي حَدِيثٍ: «إِنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرْعَى فِي الْجَنَّةِ، وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَشْرَبُ مِنْ مِيَاهِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ تَحْتَ الْعَرْشِ.» قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمْ فِي الْجَنَّةِ يَعْنِي أَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالشُّهَدَاءِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ جَنَّةَ الْمَأْوَى ; لِأَنَّهَا تَأْوِي إِلَيْهَا الْأَرْوَاحُ وَهِيَ تَحْتَ الْعَرْشِ فَيَتَنَعَّمُونَ بِنَعِيمِهَا، وَيَشُمُّونَ بِطَيِّبِ رِيحِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْجَوْهَرِيُّ عَلَقَتِ الْإِبِلُ الْعِضَاةَ تَعَلُقُ بِالضَّمِّ إِذَا تَشَبَّثَتْهَا وَتَنَاوَلَتْهَا بِأَفْوَاهِهَا، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَعْلُقُ مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ» اهـ كَلَامُهُ، وَلَعَلَّ الظَّاهِرَ أَنْ يُقَالَ: تَعْلُقُ مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ، وَتَعْدِيَتُهُ بِالْبَاءِ تُفِيدُ الِاتِّصَالَ لَعَلَّهُ كَنَّى بِهِ عَنِ الْأَكْلِ؛ لِأَنَّهَا إِذَا اتَّصَلَتْ بِشَجَرِ الْجَنَّةِ، وَتَشَبَّثَتْ لَهَا أَكَلَتْ مِنْ ثَمَرِهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِيهِ أَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ مَوْجُودَةٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَفِيهِ أَنَّ الْأَرْوَاحَ بَاقِيَةٌ لَا تَفْنَى فَيُنَعَّمُ الْمُحْسِنُ، وَيُعَذَّبُ الْمُسِيءُ بِهِ الْقُرْآنُ وَالْآثَارُ اهـ.
وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ «نَسَمَةَ الْمُؤْمِنِ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، وَنَسَمَةُ الْكَافِرِ فِي سِجِّينٍ؟» (قَالَ: بَلَى. قَالَتْ: فَهُوَ ذَاكَ) وَفِي نُسْخَةٍ: فَهُوَ ذَلِكَ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ) . قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute