للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ نَسَمَةِ الْمُؤْمِنِ أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ ; لِأَنَّ هَذَا صِفَتُهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: ١٦٩] ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ يُعْرَضُ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغُدُوِّ وَالْعَشِيِّ، وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَذَابٍ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ. (تَعْلُقُ) بِالتَّأْنِيثِ وَالتَّذْكِيرِ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: تَعْلُقُ بِضَمِّ اللَّامِ أَيْ: تَأْكُلُ الْعُلْقَةَ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ، وَهِيَ مَا يُتَبَلَّغُ مِنَ الْعَيْشِ أَيْ تَسْرَحُ. (فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ) أَيْ: يَرُدَّهُ إِلَيْهِ رَدًّا كَامِلًا فِي بَدَنِهِ. (يَوْمَ يَبْعَثُهُ، رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ) قَالَ السُّيُوطِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ «إِنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي طَيْرٍ خُضْرٍ تَعْلُقُ مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ» ، أَوْ شَجَرِ الْجَنَّةِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي حَدِيثِ كَعْبٍ نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَفْسَهَا يَكُونُ طَائِرًا أَيْ: عَلَى صُورَتِهِ لَا أَنَّهَا تَكُونُ فِيهِ، وَيَكُونُ الطَّائِرُ ظَرْفًا لَهَا، وَكَذَا فِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: «أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ كَطَيْرٍ خُضْرٍ» ، وَفِي لَفْظٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَجُولُ فِي طَيْرٍ خُضْرٍ، وَلَفْظِ ابْنِ عَمْرٍو: فِي صُوَرِ طَيْرٍ بِيضٍ. وَفِي لَفْظٍ عَنْ كَعْبٍ: «أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ طَيْرٌ خُضْرٌ» . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا كُلُّهُ أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ: جَوْفِ طَيْرٍ. وَقَالَ الْقَابِسِيُّ: أَنْكَرَ الْعُلَمَاءُ رِوَايَةَ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ ; لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ مَحْصُورَةً مُضَيَّقًا عَلَيْهَا، وَرُدَّ بِأَنَّ الرِّوَايَةَ ثَابِتَةٌ، وَالتَّأْوِيلَ مُحْتَمَلٌ لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي الْأَجْوَافِ حَقِيقَةً وَيُوَسِّعُهَا اللَّهُ لَهَا حَتَّى تَكُونَ أَوْسَعَ مِنَ الْفَضَاءِ كَذَا نَقَلَهُ السُّيُوطِيُّ فِي شَرْحِ الصُّدُورِ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا الْإِيرَادَ مِنْ أَصْلِهِ سَاقِطٌ لِأَنَّهُ التَّضْيِيقُ وَالِانْحِصَارُ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الرُّوحِ وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي الْجَسَدِ وَالرُّوحِ إِذَا كَانَتْ لَطِيفَةً يَتْبَعُهَا الْجَسَدُ فِي اللَّطَافَةِ فَتَسِيرُ بِجَسَدِهَا حَيْثُ شَاءَتْ وَتَتَمَتَّعُ بِمَا شَاءَتْ وَتَأْوِي إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ لَهَا كَمَا وَقَعَ لِنَبِيِّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْمِعْرَاجِ وَلَا تَبَاعُدَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ حَيْثُ طُوِيَتْ لَهُمُ الْأَرْضُ، وَحَصَلَ لَهُمْ أَبْدَانٌ مُكْتَسَبَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَجَدُوهَا فِي أَمَاكِنَ مُخْتَلِفَةٍ فِي آنٍ وَاحِدٍ، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَهَذَا فِي هَذَا الْعَالَمِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْأَمْرِ الْعَادِيِّ غَالِبًا، فَكَيْفَ وَأَمْرُ الرُّوحِ وَأَحْوَالُ الْآخِرَةِ كُلُّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَإِنَّمَا رُكِّبَ لِلْأَرْوَاحِ أَبْدَانٌ لَطِيفَةٌ عَارِيَةٌ بَدَلًا عَنْ أَجْسَادِهِمُ الْكَثِيفَةِ مُدَّةَ الْبَرْزَخِ وَسِيلَةً لِتَمَتُّعِ الْأَرْوَاحِ بِاللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِهَا، لِيَقَعَ النَّعِيمُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَعَلَى طِبْقِ الْحَالِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ أَحْيَاءً بِأَرْوَاحٍ أُخَرَ حَتَّى يَلْزَمَ مِنْهُ مَحْذُورٌ عَقْلِيٌّ وَهُوَ كَوْنُ الرُّوحَيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ، وَقَالَ ابْنُ دِحْيَةَ فِي التَّنْوِيرِ: قَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ: هَذِهِ رِوَايَةٌ مُنْكَرَةٌ. وَقَالُوا: لَا يَكُونُ رُوحَانِ فِي جَسَدٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ، وَقَوْلُهُمْ جَهْلٌ بِالْحَقَائِقِ، وَاعْتِرَاضٌ عَلَى السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ، فَإِنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ بَيِّنٌ، فَإِنَّ رُوحَ الشَّهِيدِ الَّذِي كَانَ فِي جَوْفِ جَسَدِهِ فِي الدُّنْيَا يُجْعَلُ فِي جَوْفِ جَسَدٍ آخَرَ كَأَنَّهُ صُورَةُ طَائِرٍ فَيَكُونُ فِي هَذَا الْجَسَدِ الْآخَرِ كَمَا كَانَ فِي الْأَوَّلِ وَذَلِكَ مُدَّةَ الْبَرْزَخِ إِلَى أَنْ يَبْعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا خَلَقَهُ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَسْتَحِيلُ فِي الْعَقْلِ قِيَامُ حَيَاتَيْنِ بِجَوْهَرٍ وَاحِدٍ، فَيَحْيَا الْجَوْهَرُ بِهِمَا جَمِيعًا، وَأَمَّا رُوحَانِ فِي جَسَدٍ فَلَيْسَ بِمُحَالٍ ; إِذْ لَمْ تَتَدَاخَلِ الْأَجْسَامُ فَهَذَا الْجَنِينُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَرُوحُهُ غَيْرُ رُوحِهَا وَقَدِ اشْتَمَلَ عَلَيْهِمَا جَسَدٌ وَاحِدٌ، وَهَذَا أَنْ لَوْ قِيلَ لَهُمْ إِنَّ الطَّائِرَ لَهُ رُوحٌ غَيْرُ رُوحِ الشَّهِيدِ، وَهُمَا فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ فَكَيْفَ وَإِنَّمَا قِيلَ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ أَيْ: فِي صُورَةِ طَيْرٍ كَمَا تَقُولُ: رَأَيْتُ مَلَكًا فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>