للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

لِلْمَعْنَى الدَّقِيقِ الْخَفِيِّ فِي مُشَاهَدَةِ السَّامِعِ حَتَّى كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ رَأْيَ الْعَيْنِ، فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا كُوشِفَ لَهُ بِحَقِيقَةِ هَذَا الْأَمْرِ، وَأَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ اطِّلَاعًا لَمْ يَبْقَ مَعَهُ خَفَاءٌ صَوَّرَ الشَّيْءَ الْحَاصِلَ فِي قَلْبِهِ بِصُورَةِ الشَّيْءِ الْحَاصِلِ فِي يَدِهِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ إِشَارَةً إِلَى الْمَحْسُوسِ (قُلْنَا: لَا) أَيْ: لَا نُدْرِكُهُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِلَّا أَنْ تُخْبِرَنَا) : اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ؛ أَيْ: طَلَبُوا بِهَذَا الِاسْتِدْرَاكِ إِخْبَارَهُ إِيَّاهُمْ ( «فَقَالَ لِلَّذِي فِي يَدِهِ الْيُمْنَى» ) أَيْ: لِأَجْلِهِ، وَفِي شَأْنِهِ، أَوْ عَنْهُ، وَقِيلَ: قَالَ بِمَعْنَى أَشَارَ فَاللَّامُ. بِمَعْنَى (إِلَى) ( «هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ» ) : خَصَّهُ بِالذِّكْرِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَالِكُهُمْ، وَهُمْ لَهُ مَمْلُوكُونَ يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ كَيْفَ يَشَاءُ، فَيُسْعِدُ مَنْ يَشَاءُ، وَيُشْقِي مَنْ يَشَاءُ، وَكُلُّ ذَلِكَ عَدْلٌ وَصَوَابٌ، فَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا كَلَامٌ صَادِرٌ عَلَى طَرِيقِ التَّصْوِيرِ وَالتَّمْثِيلِ مُثِّلَ الثَّابِتُ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوِ الْمُثْبَتُ فِي اللَّوْحِ بِالْمُثْبَتِ بِالْكِتَابِ الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ، وَلَا يُسْتَبْعَدُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْتَعِدٌّ لِإِدْرَاكِ الْمَعَانِي الْغَيْبِيَّةِ، وَمُشَاهَدَةِ الصُّوَرِ الْمَصُوغَةِ لَهَا ( «فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ» ) : الظَّاهِرُ أَنَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَهْلِ النَّارِ يُكْتَبُ أَسْمَاؤُهُمْ، وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ، وَقَبَائِلِهِمْ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، أَوِ النَّارِ لِلتَّمْيِيزِ التَّامِّ، كَمَا يُكْتَبُ فِي الصُّكُوكِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: أَهْلُ الْجَنَّةِ تُكْتَبُ أَسْمَاؤُهُمْ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ، وَقَبَائِلِهِمْ لِلَّذِينَ هُمْ أَهْلُ النَّارِ فِي الْكِتَابِ الَّذِي بِالْيَمِينِ، وَبِالْعَكْسِ فِي أَهْلِ النَّارِ، وَإِلَّا فَالْآبَاءُ وَالْأَبْنَاءُ إِذَا كَانُوا مِنْ جِنْسِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، أَوْ مِنْ جِنْسِ أَهْلِ النَّارِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِفْرَادِ ذِكْرِهِمْ لِدُخُولِهِمْ تَحْتَ قَوْلِهِ: فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَفِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ النَّارِ (ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ) : مِنْ قَوْلِهِمْ: أُجْمِلَ الْحِسَابُ إِذَا تُمِّمَ وَرُدَّ التَّفْصِيلُ إِلَى الْإِجْمَالِ، وَأُثْبِتَ فِي آخِرِ الْوَرَقَةِ مَجْمُوعُ ذَلِكَ وَجُمْلَتُهُ كَمَا هُوَ عَادَةُ الْمُحَاسِبِينَ أَنْ يَكْتُبُوا الْأَشْيَاءَ مُفَصَّلَةً، ثُمَّ يُوَقِّعُوا فِي آخِرِهَا فَذْلَكَةً تَرُدُّ التَّفْصِيلَ إِلَى الْإِجْمَالِ، وَضُمِّنَ (أُجْمِلَ) مَعْنَى أَوْقَعَ فَعُدِّيَ بِعَلَى أَيْ: أَوْقَعَ الْإِجْمَالَ عَلَى مَنِ انْتَهَى إِلَيْهِ التَّفْصِيلُ، وَقِيلَ: ضَرَبَ بِالْإِجْمَالِ عَلَى آخَرَ التَّفْصِيلِ أَيْ: كَتَبَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا أَيْ: أُجْمِلَ فِي حَالِ انْتِهَاءِ التَّفْصِيلِ إِلَى آخِرِهِمْ فَعَلَى بِمَعْنَى (إِلَى) (فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ) : جَزَاءُ شَرْطٍ؛ أَيْ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ مِنَ التَّفْصِيلِ، وَالتَّعْيِينِ وَالْإِجْمَالِ بَعْدَ التَّفْصِيلِ فِي الصَّكِّ فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ (وَلَا يُنْقَصُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (مِنْهُمْ أَبَدًا) : لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ لَا يَتَغَيَّرُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ - يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: ٣٨ - ٣٩] فَمَعْنَاهُ لِكُلِّ انْتِهَاءِ مُدَّةٍ وَقْتٌ مَضْرُوبٌ، فَمَنِ انْتَهَى أَجَلُهُ يَمْحُوهُ، وَمَنْ بَقِيَ مِنْ أَجَلِهِ يُبْقِيهِ عَلَى مَا هُوَ مُثْبَتٌ فِيهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُثْبَتٌ عِنْدَ اللَّهِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَهُوَ الْقَدَرُ، كَمَا أَنَّ (يَمْحُو وَيُثْبِتُ) هُوَ الْقَضَاءُ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَيْنَ مَا قَدَّرَ وَجَرَى فِي الْأَوَّلِ، كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ تَغْيِيرًا، أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ مَحْوُ الْمَنْسُوخِ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَإِثْبَاتُ النَّاسِخِ، أَوْ مَحْوُ السَّيِّئَاتِ مِنَ التَّائِبِ، وَإِثْبَاتُ الْحَسَنَاتِ بِمُكَافَأَتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمَحْوُ، وَالْإِثْبَاتُ يَتَعَلَّقَانِ بِالْأُمُورِ الْمُعَلَّقَةِ دُونَ الْأَشْيَاءِ الْمُحْكَمَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِرِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا ( «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ لَوْحًا مَحْفُوظًا مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ صَفَحَاتُهَا مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، قَلَمُهُ نُورٌ، وَكِتَابُهُ نُورٌ، لِلَّهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ سِتُّونَ وَثَلَاثُمَائَةِ لَحْظَةٍ؛ يَخْلُقُ، وَيَرْزُقُ، وَيُمِيتُ، وَيَحْرُسُ، وَيُعِزُّ، وَيُذِلُّ، وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ» ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: ٣٩] لِمَا مَرَّ أَنَّ الْمَحْوَ وَالْإِثْبَاتَ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِمَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَعِلْمِ الْمَلَائِكَةِ؛ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ فِيهِ قَدْ تَكُونُ مُعَلَّقَةً عَلَى أَسْبَابٍ يَتَغَيَّرُ بِوُجُودِهَا، وَفَقْدِهَا لَا لِأُمِّ الْكِتَابِ الْمُرَادُ بِهَا عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى الْقَدِيمُ؛ لِأَنَّهُ لَا مَحْوَ فِيهِ، وَلَا إِثْبَاتَ، وَسِرُّ ذَلِكَ التَّعْلِيقِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا الْمُوَافِقُ لِلْعِلْمِ الْقَدِيمِ مَزِيدُ التَّعْمِيَةِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُطَّلِعِينَ عَلَى ذَلِكَ، وَتَحْقِيقُ انْفِرَادِهِ تَعَالَى

<<  <  ج: ص:  >  >>