(وَحِسَابُهُ) أَيْ جَزَاؤُهُ وَمُحَاسَبَتُهُ (عَلَى اللَّهِ) بِأَنَّهُ مُخْلِصٌ أَمْ لَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ نَتْرُكُ مُقَاتَلَتَهُ، وَلَا نُفَتِّشُ بَاطِنَهُ، هَلْ هُوَ مُخْلِصٌ أَمْ لَا؟ فَإِنَّ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَحِسَابُهُ عَلَيْهِ (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ) بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ (بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ) أَيِ الْمَقْرُونَتَيْنِ فِي الْقُرْآنِ، أَوِ الْمَوْجُودَتَيْنِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ، حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، وَهَذَا أَظْهَرُ فِي اسْتِدْلَالِ أَبِي بَكْرٍ (فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ) أَيْ كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ حَقُّ النَّفْسِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يَعْنِي الْحَقَّ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ " إِلَّا بِحَقِّهِ " أَعَمَّ مِنَ الْمَالِ، وَغَيْرِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: كَأَنَّ عُمَرَ حَمَلَ قَوْلَهُ بِحَقِّهِ عَلَى غَيْرِ الزَّكَاةِ، فَلِذَلِكَ صَحَّ اسْتِدْلَالُهُ بِالْحَدِيثِ، فَأَجَابَ أَبُو بَكْرٍ بِأَنَّهُ شَامِلٌ لِلزَّكَاةِ أَيْضًا، أَوْ تَوَهَّمَ عُمَرُ أَنَّ الْقِتَالَ لِلْكُفْرِ، فَأَجَابَ بِأَنَّهُ لِمَنْعِ الزَّكَاةِ لَا لِلْكُفْرِ اهـ، وَلَا مُسْتَدَلَّ لِلشَّافِعِيَّةِ فِيهِ بِأَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ يُقْتَلُ فَإِنَّ الْفَرْقَ ظَاهِرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِتَالِ لِقَوْمٍ تَرَكُوا شِعَارَ الْإِسْلَامِ بِتَرْكِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ مُحَمَّدًا مِنْ أَصْحَابِنَا جَوَّزَ الْقِتَالَ لِقَوْمٍ تَرَكُوا الْأَذَانَ فَضْلًا عَنِ الْأَرْكَانِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: ١٠٣] الْآيَةَ يُوجِبُ حَقَّ أَخْذِ الزَّكَاةِ مُطْلَقًا لِلْإِمَامِ، وَعَلَى هَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخَلِيفَتَانِ بَعْدَهُ، فَلَمَّا وَلِيَ عُثْمَانُ وَظَهَرَ تَغَيُّرُ النَّاسِ كَرِهَ أَنْ يُفَتِّشَ السُّعَاةُ عَلَى النَّاسِ مَسْتُورَ أَمْوَالِهِمْ فَفَوَّضَ الدَّفْعَ إِلَى الْمُلَّاكِ نِيَابَةً عَنْهُ، وَلَمْ يَخْتَلِفِ الصَّحَابَةُ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا لَا يُسْقِطُ طَلَبَ الْإِمَامِ أَصْلًا، وَلِهَذَا لَوْ عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ بَلْدَةٍ لَا يُؤَدُّونَ زَكَاتَهُمْ طَالَبَهُمْ بِهَا (وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي) أَيْ بِالْمَنْعَةِ وَالْغَلَبَةِ (عَنَاقًا) بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيِ الْأُنْثَى لَمْ تَبْلُغْ سِتَّةً مِنْ وَلَدِ الْمَعْزِ، وَذَكَرَهَا مُبَالَغَةً، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي رِوَايَةٍ: عَقَالًا، وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أَصَحُّهَا وَأَقْوَاهَا قَوْلُ صَاحِبِ التَّحْرِيرِ أَنَّهُ وَرَدَ مُبَالَغَةً، لِأَنَّ الْكَلَامَ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّضْيِيقِ وَالتَّشْدِيدِ، فَيَقْتَضِي قِلَّةً وَحَقَارَةً، فَانْدَفَعَ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ: مِنْ قَوْلِهِ: وَدَلِيلُ وُجُوبِهَا فِي الصِّغَارِ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا، وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، فَكَانَ إِجْمَاعًا، فَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ مَا فِي أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ «عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: أَتَانِي مُصَدِّقُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَيْتُهُ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فِيَّ، يَعْنِي كِتَابِي أَنْ لَا آخُذَ رَاضِعَ لَبَنٍ» . . الْحَدِيثَ، قَالَ: وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ لَا يُعَارِضُهُ لِأَنَّ أَخْذَ الْعَنَاقِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخْذَ مِنَ الصِّغَارِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي حَدِيثِ " فِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ " أَنَّ الْعَنَاقَ يُقَالُ عَلَى الْجَزِعَةِ وَالثَّنِيَّةِ، وَلَوْ مَجَازًا، فَارْجِعْ إِلَيْهِ، فَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ دَفْعًا لِلتَّعَارُضِ، وَلَوْ سَلِمَ جَازَ أَخْذُهَا بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ لَا أَنَّهَا هِيَ نَفْسُ الْوَاجِبِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ، أَوْ هُوَ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ لَا التَّحْقِيقِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عِقَالًا مَكَانَ عَنَاقًا (كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا) أَيْ عَلَى تَرْكِ مَنْعِهَا أَوْ لِأَجْلِ مَنْعِهَا، وَلَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ أَصْلًا عَلَى مَا قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ أَخْذًا مِنَ الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَخْذُ الزَّكَاةِ مِنْ مَانِعِيهَا قَهْرًا عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا هُوَ فِي قِتَالِ مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ لِإِنْكَارِهَا أَوْ شُبْهَةٍ فِي وُجُوبِهَا، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْحَقِّ، وَأَمَّا مَنِ انْقَادَ إِلَى أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا فَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ فِي فِعْلِهَا، وَتَرْكِهَا، مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَةِ، وَهِيَ غَيْرُ صَحِيحَةٍ فِي الْمَقْهُورِ (قَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ) أَيِ الشَّأْنُ (إِلَّا رَأَيْتُ) أَيْ عَلِمْتُ (أَنَّ اللَّهَ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ) وَفَتَحَ قَلْبَهُ بِالْإِلْهَامِ غَيْرَةً عَلَى أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ (فَعَرَفْتُ أَنَّهُ) أَيْ رَأَى أَبَا بَكْرٍ أَوِ الْقِتَالَ (هُوَ الْحَقُّ) وَهَذَا إِنْصَافٌ مِنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرُجُوعٌ إِلَى الْحَقِّ عِنْدَ ظُهُورِهِ، مَعَ أَنَّهُ مَظْهَرُ نُطْقِ الْحَقِّ، وَمَنْبَعُ عَيْنِ الصِّدْقِ، وَهَذَا يُظْهِرُ كَمَالَ الصِّدِّيقِ، وَالْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَارُوقِ، حَيْثُ سَلَكَ الصِّدِّيقُ طَرِيقَ التَّدْقِيقِ وَسَبِيلَ التَّحْقِيقِ، عَلَى وَفْقِ التَّوْفِيقِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ، أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا عُلِمَ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ مُحِقٌّ، فَهَذَا الضَّمِيرُ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ نَحْوَ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الأنعام: ٢٩] (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute