وَبَيْنَهَا أَمَدٌ بَعِيدٌ، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - " يَدَعُ شَهْوَتَهُ " أَيْ يَتْرُكُ مَا اشْتَهَتْهُ نَفْسُهُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الصَّوْمِ " وَطَعَامَهُ " تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ، أَوِ الشَّهْوَةُ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ، وَالطَّعَامُ عِبَارَةٌ عَنْ سَائِرِ الْمُفْطِرَاتِ، وَقَدَّمَ الْجِمَاعَ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ فَإِنَّهُ أَقْبَحُ مُفْسِدَاتِهِ (مِنْ أَجْلِي) أَيْ مِنْ جِهَةِ أَمْرِي وَقَصْدِ رِضَائِي، وَأَجْرِي، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى اعْتِبَارِ النِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ فِي الصَّوْمِ، وَإِشْعَارٌ بِأَنَّ الصَّوْمَ لَا رِيَاءَ فِيهِ أَصْلًا ; لِأَنَّ غَايَةَ مَا يَقُولُهُ الْمُرَائِي: أَنَا صَائِمٌ، وَهُوَ لَا يُوجِبُ رِيَاءً فِي أَصْلِ الصَّوْمِ، إِنَّمَا الَّذِي وَقَعَ بِهِ الرِّيَاءُ الْإِخْبَارُ عَنِ الصَّوْمِ لَا غَيْرُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قَوْلُهُ " فَإِنَّهُ لِي " أَيْ لَمْ يُشَارِكْنِي فِيهِ أَحَدٌ، وَلَا عُبِدَ بِهِ غَيْرِي، وَهَذَا لِأَنَّ جَمِيعَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - قَدْ عَبَدَ بِهَا الْمُشْرِكُونَ آلِهَتَهُمْ، وَلَمْ يُسْمَعْ أَنَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ عَبَدَتْ آلِهَتَهَا بِالصَّوْمِ، وَلَا تَقَرَّبَتْ بِهِ إِلَيْهَا فِي عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ اهـ وَصَوْمُ الْمُسْتَخْدِمِينَ لِنَحْوِ الْجِنِّ أَوِ النُّجُومِ لَيْسَ لِذَوَاتِهِمْ بَلْ لِيَتَخَلَّوْا عَنِ الْكُدُورَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ حَتَّى يَقْدِرُوا عَلَى مُلَاقَاةِ الصُّوَرِ الرُّوحَانِيَّةِ " «لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ» " أَيْ مَرَّتَانِ مِنَ الْفَرَحِ عَظِيمَتَانِ: إِحْدَاهُمَا فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى فِي الْآخِرَةِ " «فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ» " أَيْ إِفْطَارِهِ بِالْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ الْمَأْمُورِ، أَوْ بِوِجْدَانِ التَّوْفِيقِ لِإِتْمَامِ الصَّوْمِ، أَوْ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بَعْدَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، أَوْ بِمَا يَرْجُوهُ مِنْ حُصُولِ الثَّوَابِ، وَقَدْ وَرَدَ: " «ذَهَبَ الظَّمَأُ وَثَبَتَ الْأَجْرُ» "، أَوْ بِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ «لِلصَّائِمِ عِنْدَ إِفْطَارِهِ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً» " «وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ» " أَيْ بِنَيْلِ الْجَزَاءِ أَوْ حُصُولِ الثَّنَاءِ أَوِ الْفَوْزِ بِاللِّقَاءِ " «وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ» " بِفَتْحِ لَامِ الِابْتِدَاءِ تَأْكِيدًا، وَبِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ خَلُفَ فَمُهُ إِذَا تَغَيَّرَ رَائِحَةُ فَمِهِ، خُلُوفًا بِالضَّمِّ لَا غَيْرُ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَمِنْهُمْ مَنْ فَتَحَ الْخَاءَ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَهُوَ خَطَأٌ، أَيْ مَا يُخَلَّفُ بَعْدَ الطَّعَامِ فِي فَمِ الصَّائِمِ مِنْ رَائِحَةٍ كَرِيهَةٍ بِخِلَافِ الْمُعْتَادِ " أَطْيَبُ " أَيْ أَفْضَلُ وَأَرْضَى وَأَحَبُّ " عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ " عِنْدَكُمْ لِأَنَّ رَائِحَةَ فَمِ الصَّائِمِ مِنْ أَثَرِ الصِّيَامِ وَهُوَ عِبَادَةٌ يَجْزِي بِهَا اللَّهُ - تَعَالَى - بِنَفَسِهِ صَاحِبَهَا، كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: فُضِّلَ مَا يُنْكَرُ مِنَ الصِّيَامِ عَلَى أَطْيَبِ مَا يُسْتَلَذُّ بِهِ مِنْ جِنْسِهِ لِيُقَاسَ عَلَيْهِ مَا فَوْقَهُ مِنْ آثَارِ الصَّوْمِ وَنَتَائِجِهِ اهـ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ عَدَمُ إِزَالَةِ الْخُلُوفِ بِالسِّوَاكِ وَغَيْرِهِ، كَمَا اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ السِّوَاكَ بَعْدَ الزَّوَالِ مَكْرُوهٌ، لِأَنَّ نَظِيرَهُ قَوْلُ الْوَالِدَةِ: لَبَوْلُ وَلَدِي أَطْيَبُ مِنْ مَاءِ الْوَرْدِ عِنْدِي، وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ غَسْلِ الْبَوْلِ، فَكَذَا هَذَا، وَسَيَأْتِي بَسْطُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي أَثْنَاءِ بَابِ تَنْزِيهِ الصَّوْمِ " «وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ» " بِضَمِّ الْجِيمِ أَيْ وِقَايَةٌ كَالْقَوْسِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ حِجَابٌ وَحِصْنٌ لِلصَّائِمِ مِنَ الْمَعَاصِي فِي الدُّنْيَا وَمِنَ النَّارِ فِي الْعُقْبَى " وَإِذَا " وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فَإِذَا أَيْ إِذَا عَرَفْتَ مَا فِي الصَّوْمِ مِنَ الْفَضَائِلِ الْكَامِلَةِ وَالْفَوَائِدِ الشَّامِلَةِ " كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ " بِرَفْعِ يَوْمٍ عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ، وَقِيلَ بِالنَّصْبِ، فَالتَّقْدِيرُ إِذَا كَانَ الْوَقْتُ يَوْمَ صَوْمِ أَحَدِكُمْ " فَلَا يَرْفُثْ " بِضَمِّ الْفَاءِ وَيُكْسَرُ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: بِتَثْلِيثِ الْفَاءِ وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْقَامُوسِ " وَلَا يَصْخَبْ " بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ لَا يَرْفَعْ صَوْتَهُ بِالْهَذَيَانِ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهُمَا لِيَكُونَ صَوْمُهُ كَامِلًا، فَالْمَعْنَى لِيَكُنِ الصَّائِمُ صَائِمًا عَنْ جَمِيعِ الْمَنَاهِي وَالْمَلَاهِي، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: وَلَا يَجْهَلْ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَهُوَ الْعَمَلُ بِخِلَافِ مَا يَقْتَضِيهِ الْعِلْمُ اهـ فَهُوَ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ " فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ " أَيِ ابْتَدَأَهُ بِسَبٍّ أَوْ شَتْمٍ " أَوْ قَاتَلَهُ " أَيْ أَرَادَ قَتْلَهُ بِحَرْبٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ مُخَاصَمَةٍ وَمُجَادَلَةٍ " فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ " وَهُوَ إِمَّا بِاللِّسَانِ لِيَنْزَجِرَ خَصْمُهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: إِذَا كُنْتُ صَائِمًا لَا يَجُوزُ لِي أَنْ أُخَاصِمَكَ بِالشَّتْمِ وَالْهَذَيَانِ، فَلَا يَلِيقُ بِكَ أَنْ تُعَارِضَنِي فِي هَذَا الْوَقْتِ، لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْمُرُوءَةِ عَادَةً، فَيَنْدَفِعُ خَصْمُهُ، أَوْ مَعْنَاهُ: فَلَا يَنْبَغِي مِنْكَ التَّطَاوُلُ عَلَيَّ بِلِسَانِكَ، أَوْ بِيَدِكَ لِأَنِّي فِي ذِمَّةِ اللَّهِ - تَعَالَى، وَمَنْ يَخْفِرِ اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ يُهْلِكْهُ، وَلَا مِنِّي بِأَنْ أَغْضَبَ وَأُجَازِيَكَ، أَوْ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْفُحْشُ وَالْغَضَبُ اهـ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: أَيْ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، لِتَكُونَ فَائِدَةُ ذِكْرِهِ بِقَلْبِهِ كَفَّ نَفْسِهِ عَنْ مُقَاتَلَتِهِ خَصْمَهُ، وَذِكْرِهِ بِلِسَانِهِ كَفًّا لِخَصْمِهِ عَنِ الزِّيَادَةِ، وَهُوَ مِنْ أَسْرَارِ الشَّرِيعَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute