(فَأَرْسَلْنَا رَجُلًا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ، فَقَالَ) أَيْ فَسَأَلَهُ عَمَّا وَقَعَ بَيْنَنَا مِمَّا سَبَقَ فَقَالَ (ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَدَّهُ لِرُؤْيَتِهِ ") قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ أَطَالَ مُدَّتَهُ إِلَى الرُّؤْيَةِ، أَيْ أَطَالَ مُدَّةَ شَعْبَانَ إِلَى زَمَانِ رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَأَوْضَحُ مِنْهُ أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ ابْتِدَاءَ مُدَّتِهِ حَاصِلًا بَعْدَ رُؤْيَتِهِ فَغَيْرُ وَاضِحٍ، بَلْ فَاسِدٌ لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَمَدَّهُ رَاجِعٌ إِلَى شَعْبَانَ، وَفِي لِرُؤْيَتِهِ إِلَى رَمَضَانَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرَانِ لِرَمَضَانَ كَمَا وَهِمَ لَا مَعْنَى إِلَى لِأَمْرِ رَمَضَانَ لِرُؤْيَةِ رَمَضَانَ، وَلَا دَلَالَةَ عَلَى الِابْتِدَاءِ فِي الْحَدِيثِ أَصْلًا، وَلَوْ قُلْنَا إِنَّ اللَّامَ بِمَعْنَى بَعْدَ فَالْمَعْنَى أَطَالَ مُدَّةَ رَمَضَانَ بَعْدَ رُؤْيَةِ هِلَالِهِ لَصَحَّ الْمَعْنَى فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنْ لَا يَصْلُحُ جَوَابًا لِابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ سُؤَالِهِمْ إِيَّاهُ، فَتَدَبَّرْ " فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ " يُقَالُ أُغْمِيَ عَلَيْهِ الْخَبَرُ أَيِ اسْتَعْجَمَ مِثْلُ غُمَّ، أَيْ فَإِنْ أُخْفِيَ عَلَيْكُمْ بِنَحْوِ غَيْمٍ " فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ " أَيْ عَدَدَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَا يُنَافِي هَذِهِ الرِّوَايَةَ مَا قَبْلَهَا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُمْ تَرَاءَوْهُ بِذَاتِ عِرْقٍ، وَتَنَازَعُوا فِيهِ فَأَرْسَلُوا يَسْأَلُونَهُ، فَأَجَابَهُمْ بِذَلِكَ، فَلَمَّا وَصَلُوا بَطْنَ نَخْلَةَ رَأَوْهُ فَسَأَلُوهُ شِفَاهًا، فَأَجَابَهُمْ بِمَا يُطَابِقُ الْجَوَابَ، وَحَاصِلُهُمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْحُكْمِ بِدُخُولِ رَمَضَانَ لَيْلَةَ ثَلَاثِينَ شَعْبَانَ مِنْ رُؤْيَةِ هِلَالِهِ وَاسْتُفِيدَ مِنْهُ قَوْلُهُ لِلَيْلَةِ رَأَيْتُمُوهُ أَنْ لَا عِبْرَةَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ قَبْلَ الْغُرُوبِ، وَإِنَّهُ لَوْ رُؤِيَ لَيْلَةَ ثَلَاثِينَ شَعْبَانَ أَوْ رَمَضَانَ نَهَارًا قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ لَمْ يُحْكَمْ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ وَلَا الْمُسْتَقْبَلَةِ، فَلَا يُفْطِرُهُ مِنْ رَمَضَانَ وَلَا يُمْسِكُهُ مِنْ شَعْبَانَ، بَلْ إِنْ رُؤِيَ بَعْدَ الْغُرُوبِ حُكِمَ بِهِ لِلْمُسْتَقْبَلَةِ، وَإِلَّا فَلَا لِلْخَبَرِ السَّابِقِ: " صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ "، وَلِمَا صَحَّ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرْسَلَ إِلَى جُنْدٍ لَهُ بِالْعِرَاقِ: إِنَّ هَذِهِ الْأَهِلَّةَ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا رَأَيْتَ الْهِلَالَ نَهَارًا فَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَاهُ بِالْأَمْسِ، وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ نَاسًا رَأَوْا هِلَالَ الْفِطْرِ نَهَارًا فَأَتَمَّ صِيَامَهُ إِلَى اللَّيْلِ، وَقَالَ: لَا، حَتَّى يُرَى مِنْ حَيْثُ يُرَى بِاللَّيْلِ، وَفِي رِوَايَةٍ: لَا يَصْلُحُ أَنْ نُفْطِرَ حَتَّى تَرَوْهُ لَيْلًا مِنْ حَيْثُ يُرَى، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَرُوِّينَا فِي ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ غَيْرُهُ: وَعَنْ عَلِيٍّ وَأَنَسٍ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ، وَرَوَى مَالِكٌ بَلَاغًا أَنَّ الْهِلَالَ رُؤِيَ زَمَنَ عُثْمَانَ بِعَشِيٍّ فَلَمْ يُفْطِرْ حَتَّى أَمْسَى، وَقَالَ جَمْعٌ مِنَ السَّلَفِ: إِنْ رُؤِيَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَلِلْمَاضِيَةِ أَوْ بَعْدَهُ فَلِلْمُسْتَقْبَلَةِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّهُ لَوْ رُؤِيَ يَوْمَ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ يَكُونُ لِلْمَاضِيَةِ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الشَّهْرِ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ اهـ، وَبِهِ يَتَأَيَّدُ الْمُعْتَمَدُ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّ صَوْمَ يَوْمِ الشَّكِّ حَرَامٌ، وَيَنْدَفِعُ اعْتِمَادُ مَا نُقِلَ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ أَنَّ صَوْمَهُ مَكْرُوهٌ لَا حَرَامٌ اهـ، وَفِي انْدِفَاعِ الِاعْتِمَادِ يُحْتَاجُ إِلَى أَمْرٍ يَصِحُّ فِيهِ الِاسْتِنَادُ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا لَمْ يُسَنَّ صَوْمُهُ إِذَا أُطْبِقَ الْغَيْمُ لِقَوْلِ أَحْمَدَ بِوُجُوبِهِ، لِأَنَّ الْخِلَافَ إِذَا خَالَفَ سُنَّةً صَحِيحَةً لَا يُرَاعَى اهـ وَفِيهِ أَنَّ هَذَا مُجَازَفَةٌ صَرِيحَةٌ، وَالْحَقُّ مَذْهَبُنَا الْمُتَوَسِّطُ الْأَعْدَلُ، فَتَأَمَّلْ لِئَلَّا تَقَعَ فِي الْوَجَلِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute