قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ صَوْمَهُ أَفْضَلُ لِتَبْرِئَةِ الذِّمَّةِ " وَإِنْ شِئْتَ " أَيِ: اخْتَرْتَ الْإِفْطَارَ " فَأَفْطِرْ " بِهَمْزَةِ قَطْعٍ، فَإِنَّهُ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - لِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: ١٨٤] أَيْ: وَأَفْطَرَ {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: ١٨٤] أَيْ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ عَدَدِ تِلْكَ الْأَيَّامِ، قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هَذَا التَّخْيِيرُ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَّا ابْنَ عُمَرَ فَإِنَّهُ قَالَ: إِنْ صَامَ فِي السَّفَرِ قَضَى فِي الْحَضَرِ، وَإِلَّا ابْنَ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَكَأَنَّهُمْ تَعَلَّقُوا بِظَاهِرِ الْآيَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْأَفْضَلِ مِنْهُمَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الصَّوْمُ أَفْضَلُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْفِطْرُ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَفْضَلُ الْأَمْرَيْنِ أَيْسَرُهَا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: ١٨٥] وَأَمَّا الَّذِي يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ وَلَا يُطِيقُهُ فَإِفْطَارُهُ أَوْلَى، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ رَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ: " «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» "، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَجْهُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» " وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أُولَئِكَ الْعُصَاةُ " فِيمَنْ بَلَغَ لَهُ إِنْ صَامُوا أَنَّ هَذَا فِيمَنْ لَمْ يَقْبَلْ قَلْبُهُ رُخْصَةَ اللَّهِ - تَعَالَى، فَأَمَّا مَنْ رَأَى الْفِطْرَ مُبَاحًا وَقَوِيَ عَلَى الصَّوْمِ فَصَامَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ اهـ. وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَائِلٌ بِالتَّخْيِيرِ، فَمَا رُوِيَ عَنْهُ وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى صَوْمِ الْعُصَاةِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشِّيعَةُ وَبَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الصَّوْمِ مُطْلَقًا، مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِمَا هَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ مَعْذُورٌ لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِ عَلَى حَدِيثِ التَّخْيِيرِ بِخِلَافِهِمْ فَإِنَّهُمُ اطَّلَعُوا عَلَيْهِ وَتَرَكُوهُ لِغَيْرِ مَقْنَعٍ، فَغَيْرُ مُقْنِعٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ أَنَّ أَفْضَلَهُمَا أَيْسَرُهُمَا بَعْدَ نَقْلِهِ أَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ، فَمُخَالِفٌ لِمَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ مَعَ الْجُمْهُورِ، وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْأَيْسَرَ هُوَ الْأَفْضَلُ يَرْجِعُ فِي التَّحْقِيقِ إِلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ، فَتَدَبَّرْ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ» " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْدُبُ التَّمَسُّكَ بِالرُّخْصَةِ إِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا، وَتَرْكَ التَّنَطُّعِ وَالتَّعَمُّقِ، وَمَنْ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فَهُوَ لَهُ أَفْضَلُ مُسَارَعَةً لِبَرَأَةِ الذِّمَّةِ وَلِفَضِيلَةِ الْوَقْتِ اهـ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي عِبَارَةِ عُلَمَائِنَا: وَصَوْمُ سَفَرٍ لَا يَضُرُّهُ أَحَبُّ، وَفِي الْهِدَايَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْفِطْرُ أَفْضَلُ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْحَقُّ أَنَّ قَوْلَهُ كَقَوْلِنَا وَلَمْ يُحْكَ ذَلِكَ عَنْهُ إِنَّمَا هَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَسَيَأْتِي لَفْظُ مُسْلِمٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute