ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ تَحَيَّرَ الْعُلَمَاءُ فِي تَدْقِيقِ اسْمِ اللَّهِ كَمَا تَحَيَّرَ الْعُرَفَاءُ فِي تَحْقِيقِ مُسَمَّاهُ، سُبْحَانَ مَنْ تَحَيَّرَ فِي ذَاتِهِ سِوَاهُ! فَقِيلَ: إِنَّهُ عِبْرِيٌّ ; لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا يَقُولُونَ: إِلَاهًا، فَحَذَفَتِ الْعَرَبُ الْأَلِفَ الْأَخِيرَةَ لِلتَّخْفِيفِ، كَمَا فَعَلُوا فِي النُّورِ، وَالرُّوحِ، وَالْيَوْمِ ; فَإِنَّهَا فِي اللُّغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ كَانَتْ نُورًا وَرُوحًا وَيَوْمًا، وَهَذَا وَجْهُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ مُعَرَّبٌ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ ; لِأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَوَافُقِ اللُّغَتَيْنِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ إِحْدَاهُمَا مُتَأَخِّرَةً عَنِ الْأُخْرَى مَأْخُوذَةً عَنْهَا، ثُمَّ اخْتَلَفُوا: اسْمٌ هُوَ أَمْ صِفَةٌ مُشْتَقَّةٌ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، أَوْ غَيْرُ مُشْتَقٍّ؟ عَلَمٌ، أَوْ غَيْرُ عَلَمٍ؟ وَمَا أَصْلُهُ عَلَى تَقْدِيرِ اشْتِقَاقِهِ؟ ! وَمُخْتَارُ صَاحِبِ (الْكَشَّافِ) أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَصْلِ اسْمَ جِنْسٍ، ثُمَّ صَارَ عَلَمًا وَأَنَّ أَصْلَهُ الْإِلَهُ وَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ أَلَهَ بِمَعْنَى: تَحَيَّرَ فَاللَّهُ مُتَحَيَّرٌ فِيهِ ; لِأَنَّهُمْ لَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا.
وَحَكَى سِيبَوَيْهِ وَالْمُبَرِّدُ عَنِ الْخَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ: اسْمٌ خَاصٌّ عَلَمٌ لِلَّهِ غَيْرُ مُشْتَقٍّ مِنْ شَيْءٍ وَلَيْسَ بِصِفَةٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ جَامِعًا لِأَسْمَائِهِ وَنُعُوتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ أَلَهْتُ إِلَى فُلَانٍ إِذَا فَزَعْتَ إِلَيْهِ عِنْدَ الشَّدَائِدِ قَالَ:
أَلَهْتُ إِلَيْكُمْ فِي بَلَايَا تَنُوبُنِي ... فَأَلْفَيْتُكُمْ فِيهَا كَرِيمًا مُمَجَّدًا
فَإِنَّ الْخَلْقَ يَفْزَعُونَ إِلَيْهِ عِنْدَ الشَّدَائِدِ. أَوْ مِنْ أَنَّهُ الْفَصِيلُ، وَالْفَصِيلُ: وَلَدُ النَّاقَةِ إِذَا وَلِعَ بِأُمِّهِ ; لِأَنَّ الْعِبَادَ يُولَهُونَ بِهِ وَبِذِكْرِهِ. وَقِيلَ: مِنْ تَأَلَّهْتُ أَيْ: تَضَرَّعْتُ فَالْإِلَهُ هُوَ الَّذِي يُتَضَرَّعُ إِلَيْهِ.
وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِهِمْ لَاهَ يَلُوهُ لَوْهًا وَلَاهًا إِذَا احْتَجَبَ وَارْتَفَعَ قَالَ:
لَاهَ رَبِّي عَنِ الْخَلَائِقِ طُرًّا ... فَهُوَ اللَّهُ لَا يُرَى وَيَرَى هُو.
وَقِيلَ: مِنْ أَلَهْتُ بِالْمَكَانِ إِذَا قُمْتَ بِهِ وَمَعْنَاهُ الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ عَنْ صِفَتِهِ كَمَا أَنَّ الْمُقِيمَ لَا يَتَحَوَّلُ عَنْ بُقْعَتِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَلَهْنَا بِدَارٍ لَا تَبِينُ رُسُومُهَا ... كَأَنَّ بَقَايَاهَا وِشَامٌ عَلَى الْأَيْدِي
وَقِيلَ: الْإِلَهُ أَصْلُهُ وِلَاهُ، فَهُوَ مِنَ الْوَلَهِ كَمَا قِيلَ فِي أُسَادَةٍ وَأُشَاحٍ وَأُجُوهٍ: وَسَادَةٌ وَوِشَاحٌ وَوُجُوهٌ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْعِبَادَ يُولَهُونَ عِنْدَ ذِكْرِ الْإِلَهِ أَيْ: يَطْرَبُونَ مِنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْكُمَيْتِ:
وَلِهَتْ نَفْسِيَ الطَّرُوبُ إِلَيْكُمْ ... وَلَهًا حَالَ دُونَ طَعْمِ الطَّعَامِ
وَقِيلَ: الْوَلَهُ: الْمَحَبَّةُ الشَّدِيدَةُ. وَقِيلَ: مُشْتَقٌّ مِنْ أَنَّهُ بِمَعْنَى عَبْدٍ، فَالْإِلَهُ: فِعَالٌ بِمَعْنَى الْمَعْبُودِ كَالْكِتَابِ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ: (وَيَذَرُكَ وَإِلَاهَتَكَ) أَيْ: عِبَادَتَكَ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: الْأَصْلُ فِي قَوْلِنَا: اللَّهُ إِلَهٌ فَلَمَّا حُذِفَتْ هَمْزَتُهُ عُوِّضَتْ فِي أَوَّلِهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، ثُمَّ عِوَضًا لَازِمًا فَقِيلَ: اللَّهُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْأَصْلُ فِي لَاهَ لَوِهَ عَلَى وَزْنِ دَوِرَ فَقَلَبُوا الْوَاوَ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا فَصَارَ: لَاهَ - عَلَى وَزْنِ دَارَ - ثُمَّ أَدْخَلُوا عَلَيْهِ لَامَ التَّعْرِيفِ.
وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ الرَّازِيُّ: الْأَصْلُ فِي اللَّهِ هُوَ الْإِلَهُ خُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ بِإِلْقَاءِ حَرَكَتِهَا عَلَى اللَّامِ السَّاكِنَةِ قَبْلَهَا، وَحُذِفَتْ فَصَارَتْ: اللَّاهَ، ثُمَّ أُجْرِيَتِ الْحَرَكَةُ الْعَارِضَةُ مَجْرَى الْأَصْلِيَّةِ، وَأُدْغِمَتِ اللَّامُ الْأُولَى فِي الثَّانِيَةِ، قِيلَ: هَاهُنَا إِشْكَالٌ صَرْفِيٌّ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ إِلَى مَا قَبْلَهَا أَوَّلًا عَلَى مَا هُوَ الْقِيَاسُ، ثُمَّ حُذِفَتْ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ الْإِدْغَامِ غَيْرَ قِيَاسِيٍّ، لِمَا تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ مِنْ أَنَّ الْمِثْلَيْنِ الْمُتَحَرِّكَيْنِ لَا يَجِبُ فِيهِمَا الْإِدْغَامُ إِذَا كَانَا مِنْ كَلِمَتَيْنِ نَحْوَ: مَا سَلَكَكُمْ، وَمَنَاسِكَكُمْ، وَإِنْ حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ مَعَ حَرَكَتِهَا فَيَلْزَمُ مُخَالَفَةُ الْقِيَاسِ فِي تَخْفِيفِهَا، وَإِنْ كَانَ لُزُومُ الْإِدْغَامِ عَلَى الْقِيَاسِ، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ: هَذَا الِاسْمُ خَارِجٌ عَنْ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ كَمَا أَنَّ مُسَمَّاهُ خَارِجٌ عَنْ دَائِرَةِ قِيَاسِ النَّاسِ، وَأُجِيبَ بِاخْتِيَارِ الْأَوَّلِ، وَمَنْعِ كَوْنِ الْإِدْغَامِ فِي كَلِمَتَيْنِ بِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ اللَّامَ عِوَضًا عَنِ الْهَمْزَةِ وَصَارَ بِمَنْزِلَتِهَا، صَارَ كَأَنَّهُ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ الْإِدْغَامِ بَعْدَ الْعَلَمِيَّةِ فَيَكُونُ الِاجْتِمَاعُ فِي