{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: ١٣٤] وَلَمْ يَقُلْ وَالْعَادِمِينَ لَهُ (فَإِنَّهُ) : أَيِ: الرَّجُلُ وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ (يَصِيرُ) : فِي كُلِّ مَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ وَيُحْدِثَهُ (إِلَى مَا جُبِلَ) : أَيْ: خُلِقَ وَطُبِعَ (عَلَيْهِ) : مِنَ الْأَخْلَاقِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفْقَ مَا سَبَقَ بِهِ الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُبَدَّلَ وَيُغَيَّرَ، فَالْكَيِّسُ مَثَلًا لَا يَصِيرُ بَلِيدًا، وَالسَّخِيُّ لَا يَصِيرُ بَخِيلًا، وَالشُّجَاعُ لَا يَصِيرُ جَبَانًا وَعَكْسُهَا وَهَذَا مِثَالٌ تَقْرِيبِيٌّ. بِاعْتِبَارِ اسْتِبْعَادِ الْعَادَةِ لِزَوَالِ الْجَبَلِ عَنْ مَكَانِهِ اسْتِبْعَادًا يُلْحِقُهُ بِالْمُحَالِ الْعَقْلِيِّ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ إِمْكَانُ زَوَالِ الْجَبَلِ عَنْ مَكَانِهِ دُونَ الْخُلُقِ الْمُقَدَّرِ عَمَّا قُدِّرَ عَلَيْهِ اهـ.
فَإِنْ قُلْتَ: مَدَارُ الصُّوفِيَّةِ عَلَى تَبْدِيلِ الْأَخْلَاقِ فَكَيْفَ هَذَا الْحَدِيثُ؟ قُلْتُ: التَّحْقِيقُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ خُلِقَ وَطُبِعَ فِيهِ الْأَخْلَاقُ جَمِيعُهَا، وَهِيَ صَالِحَةٌ بِأَصْلِهَا أَنْ تَكُونَ حَمِيدَةً وَأَنْ تَكُونَ ذَمِيمَةً، وَإِنَّمَا تُحْمَدُ إِذَا كَانَتْ مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَالذَّمِيمَةُ ضِدُّهَا. فَمَثَلًا السَّخَاوَةُ صِفَةٌ مُعْتَدِلَةٌ بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالْبُخْلِ، وَكَذَا الشَّجَاعَةُ بَيْنَ التَّهَوُّرِ وَالْجُبْنِ، وَكَذَا التَّوَاضُعُ بَيْنَ الضَّعَةِ وَالتَّكَبُّرِ، وَالْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ عَادَةً عَدَمُ الِاعْتِدَالِ، فَالصُّوفِيَّةُ يُجَاهِدُونَ وَيَرْتَاضُونَ فِي الْأَخْلَاقِ لِيُبَدِّلُوهَا عَنْ مُقْتَضَى الْعَادَةِ وَيُعَدِّلُوهَا عَلَى سُنَنِ الِاسْتِقَامَةِ وَالْعِبَادَةِ، وَلِذَا قِيلَ: الْإِرَادَةُ تَرْكُ الْعَادَةِ وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْبُغْضُ، وَحَالَةُ اعْتِدَالِهِ الْمَحْمُودِ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّهِ الْمَرْضِيِّ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى الْقَدْرِ الْمَحْدُودِ فِي الشَّرْعِ، وَكَذَلِكَ ضِدُّهُ الْمَحَبَّةُ وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ إِيمَانُهُ» ".
وَأَمَّا إِزَالَةُ صِفَةِ الْبُخْلِ مِنْ أَصْلِهَا بِالْكُلِّيَّةِ فَغَيْرُ مُمْكِنَةٍ إِلَّا بِالْجَذْبَةِ الْإِلَهِيَّةِ؛ وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء: ١٠٠] أَيْ بَخِيلًا.
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ ذَهَبٍ لَابْتَغَى ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ» " بَلْ قِيلَ لَوْ أُزِيلَتِ الصِّفَاتُ الذَّمِيمَةُ بِالْكُلِّيَّةِ عَنِ الْإِنْسَانِ يَكُونُ نَاقِصًا إِذْ كَمَالُهُ أَنْ تَغْلِبَ صِفَاتُهُ الْحَمِيدَةُ، وَبِهَذَا فُضِّلَ نَوْعُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَوْعِ الْمَلَكِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّبْدِيلَ الْأَصْلِيَّ الذَّاتِيَّ غَيْرُ مُمْكِنٍ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْحَدِيثُ النَّبَوِيُّ، وَأَمَّا التَّبْدِيلُ الْوَصْفِيُّ فَهُوَ مُمْكِنٌ بَلِ الْعَبْدُ مَأْمُورٌ بِهِ، وَيُسَمَّى تَهْذِيبُ النَّفْسِ وَتَحْسِينُ الْأَخْلَاقِ. قَالَ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: ٩] وَفِي الْحَدِيثِ: " «حَسِّنُوا أَخْلَاقَكُمْ» " وَفِي الدُّعَاءِ: " «اللَّهُمَّ كَمَا حَسَّنْتَ خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقِي، وَاللَّهُمَّ اهْدِنِي لِصَالِحِ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِصَالِحِهَا إِلَّا أَنْتَ» "، وَمَنْ أَرَادَ الِاسْتِيفَاءَ فَعَلَيْهِ بِالْإِحْيَاءِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْخُلُقَ الْمُبْرَمَ لَا يُبَدَّلُ وَالْخُلُقَ الْمُعَلَّقَ يُغَيَّرُ وَهُوَ مُبْهَمٌ عِنْدَنَا مَعْلُومٌ عِنْدَ اللَّهِ، فَعَلَيْنَا الْمُجَاهَدَةُ فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَلِهَذَا تَرَى كَثِيرًا مِنَ الْمُرْتَاضِينَ لَمْ تَحْسُنْ أَخْلَاقُهُمْ فِي أَزْمِنَةٍ طَوِيلَةٍ، وَبَعْضُهُمْ تُبَدَّلُ أَخْلَاقُهُمُ الذَّمِيمَةُ بِالْحَمِيدَةِ فِي مُدَّةٍ قَلِيلَةٍ أَوِ النَّفْيُ مَحْمُولٌ عَلَى الْعَادَةِ مِنْ غَيْرِ حُصُولِ الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى خَرْقِهَا، وَهُوَ تَارَةً يَكُونُ بِالْجَذْبَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَتَارَةً بِالرِّيَاضَاتِ النَّفْسِيَّةِ، وَتَارَةً بِالْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ الرَّبَّانِيَّةِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي اسْتِحْضَارُ هَذَا فِي النَّظَرِ لِلْخَلْقِ بَعْدَ وُقُوعِ الْأَفْعَالِ مِنْهُمْ حَتَّى تُقَامَ أَعْذَارُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحْوَالِهِمُ الَّتِي لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى إِقَامَتِهَا فِيهَا مَحْذُورٌ فَإِنَّ كُلًّا يَجْرِي فِي تَيَّارِ مَا قُدِّرَ لَهُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : وَكَذَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفَاسِيرِهِمْ، كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّاوِي، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيٍّ، وَكَانَ مُقْتَضَى دَأْبِ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ: رَوَى الْأَحَادِيثَ الْخَمْسَةَ أَحْمَدُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute