عَلَى وَصْفِهِ، وَحَذْفُ الْفَاعِلِ الْمَعْلُومِ جَائِزٌ، وَكَنَّى عَنْ خَطَرِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْمَعَانِي بِسَقَطَ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْأَجْسَامِ إِشْعَارًا بِشِدَّةِ هَذَا الْخَاطِرِ وَثِقَلِهِ اهـ. وَلَوْ زِيدَ وَقِيلَ لِسُقُوطِ هَذَا الْخَاطِرِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ وَلَسَقَطَ؛ لِأَنَّهُ بِدُونِ اعْتِبَارٍ لَكَانَ حَسَنًا عِنْدَ أُولِي الْأَبْصَارِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي بَعْضِ النُّسَخِ سَقَطَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ: أَيْ نَدِمَ فَتَأَمَّلْ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ اهـ. فَكَأَنَّهُ وَهِمَ أَنَّ قَوْلَهُ مِنَ التَّكْذِيبِ يَأْبَاهُ فَتَدَبَّرْ (وَلَا إِذْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي وَقَعَ فِي خَاطِرِي مِنْ تَكْذِيبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَحْسِينِهِ بِشَأْنِهِمَا تَكْذِيبًا أَكْثَرَ تَكْذِيبِي إِيَّاهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ غَافِلًا، أَوْ مُشَكِّكًا، وَإِنَّمَا اسْتَعْظَمَ هَذِهِ الْحَالَةَ؛ لِأَنَّ الشَّكَّ الَّذِي دَاخَلَهُ فِي أَمْرِ الدِّينِ إِنَّمَا وَرَدَ عَلَى مَوْرِدِ الْيَقِينِ، وَقِيلَ: فَاعِلُ سَقَطَ مَحْذُوفٌ أَيْ: وَقَعَ فِي نَفْسِي مِنَ التَّكْذِيبِ مَا لَمْ أَقْدِرْ عَلَى وَصْفِهِ وَلَمْ أَعْهَدْ بِمِثْلِهِ وَلَا وَجَدْتُ مِثْلَهُ إِذْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ أُبَيٌّ مَنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ مَا وَقَعَ لَهُ نَزْغَةٌ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ، فَلَمَّا نَالَهُ بَرَكَةُ يَدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَالَ عِنْدَ الْغَفْلَةِ وَالْإِنْكَارِ وَصَارَ فِي مَقَامِ الْحُضُورِ وَالْمُشَاهَدَةِ اهـ. وَتَبِعَهُ فِي هَذَا ابْنُ الْمَلَكِ وَقَالَ: وَتَبِعَتُهُ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ آثَمُ وَآثَمُ أَيْ أَكْثَرُ إِثْمًا، وَحَاصِلُ كَلَامِهِمَا - نَعُوذُ بِاللَّهِ - تَكْفِيرُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهَذِهِ نَزْغَةٌ جَسِيمَةٌ وَجُرْأَةٌ عَظِيمَةٌ، فَإِنَّ عِبَارَةَ آحَادِ النَّاسِ إِذَا احْتَمَلَتْ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَجْهًا مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْكُفْرِ وَوَجْهًا وَاحِدًا عَلَى خِلَافِهِ لَا يَحِلُّ أَنْ يُحْكَمَ بِارْتِدَادِهِ فَضْلًا عَمَّا وَرَدَ عَلَى لِسَانِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ الصَّحَابَةِ عُمُومًا وَمِنْ أَكْمَلِهِمْ فِي أَمْرِ الْقِرَاءَةِ خُصُوصًا، فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ وَبِيَدِهِ أَزِمَّةُ التَّحْقِيقِ: إِنَّ لَفْظَ سَقَطَ جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} [الأعراف: ١٤٩] بِالْقِرَاءَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَلَى الضَّمِّ، فَتُحْمَلُ رِوَايَةُ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ؛ مُطَابَقَةً بَيْنِهِمَا وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي أَيْدِيهِمْ وَقَوْلَهُ فِي الْحَدِيثِ " فِي نَفْسِي " بِمَعْنًى وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ كَثِيرًا مَا يُعَبَّرُ عَنِ النَّفْسِ بِالْأَيْدِي، إِلَّا أَنَّ الْبَلَاغَةَ الْقُرْآنِيَّةَ وَالْفَصَاحَةَ الْفُرْقَانِيَّةَ بَلَغَتْ غَايَةَ الْعُلْيَا فَعَبَّرَتْ بِالْعِبَارَةِ الْحُسْنَى، قَالَ الْقَاضِي: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ اشْتِدَادِ نَدَمِهِمْ، قَالَ: الْمُتَحَسِّرُ يَعَضُّ يَدَهُ غَمًّا ; فَتَصِيرُ يَدُهُ مَسْقُوطًا فِيهَا، وَقُرِئَ: سَقَطَ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ بِمَعْنَى وَقَعَ الْعَضُّ فِيهَا، وَقِيلَ: سَقَطَ النَّدَمُ فِي أَنْفُسِهِمْ اهـ. وَهُوَ غَايَةُ الْمُنَى، وَفِي الْقَامُوسِ سَقَطَ: وَقَعَ، وَبِالضَّمِّ: ذَلَّ وَنَدِمَ وَتَحَيَّرَ، فَعَلَى رِوَايَةِ الضَّمِّ مَعْنَاهُ: نَدِمْتُ مِنْ تَكْذِيبِي، وَإِنْكَارِ قِرَاءَتِهَا نَدَامَةً مَا نَدِمْتُ مِثْلَهَا لَا فِي الْإِسْلَامِ وَلَا إِذْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْفَتْحِ مَعْنَاهُ: أَوْقَعَ النَّدَمُ فِي نَفْسِي مِنْ أَجْلِ تَكْذِيبِ قِرَاءَتِهِمَا نَدَمًا لَمْ أَنْدَمْ مِثْلَهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ وَلَا حِينَ كُنْتُ فِي أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ ; لِأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْعُقَلَاءِ، وَالْعَاقِلُ لَا يُكَذِّبُ إِلَّا مَا يُنَافِي الْعَقْلَ أَوِ النَّقْلَ، وَقِرَاءَتُهُمَا مَا كَانَتْ مُنَافِيَةً لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْسِينِ الْقِرَاءَتَيْنِ فَسَادُ إِحْدَاهِمَا عَقَلًا وَنَقَلًا سِيَّمَا، وَأَخْبَرَ الصَّادِقُ: أَنَّهُمَا صَحِيحَتَانِ، فَكَيْفَ يَصْلُحُ مِثْلُ هَذَا أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلشَّكِّ فِي النُّبُوَّةِ الثَّابِتَةِ، لَا بِالْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَالْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ، وَالْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ، وَالْبَرَاهِينِ اللَّامِعَةِ مِنَ الْحَقَائِقِ الْعَقْلِيَّةِ وَالدَّقَائِقِ النَّقْلِيَّةِ، فَضْلًا عَنِ التَّكْذِيبِ مِمَّنْ هُوَ مَوْصُوفٌ بِجَمَالِ التَّهْذِيبِ وَكَمَالِ التَّأْدِيبِ! ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ وَافَقَنِي وَقَالَ: أَيْ مِنْ أَجْلِ تَكْذِيبِي لِكُلٍّ مِنَ الرَّجُلَيْنِ فِي قِرَاءَتِهِمَا. وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا قَرَأَهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ التَّكْذِيبَ بِالْقُرْآنِ كُفْرٌ، فَلِذَا عَظُمَ عَلَيَّ الْأَمْرُ الْآنَ مَا لَمْ يَعْظُمْ عَلَيَّ غَيْرُهُ فِي زَمَنٍ مَضَى. " وَلَا إِذْ كُنْتُ " أَيْ: وَلَا فِي الزَّمَنِ الَّذِي كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ لِأَنَّ مَا يُفْعَلُ فِيهَا مَرْفُوعٌ بِالْإِسْلَامِ بِخِلَافِ مَا يُفْعَلُ بَعْدَهَا لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ فِيهِ تَكْذِيبٌ بِالْقُرْآنِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ، وَأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ مَنْفِيٌّ، وَأَنَّ لَا لِتَأْكِيدِ ذَلِكَ النَّفْيِ كَهِيَ فِي " وَلَا غَرْبِيَّةٍ " وَهِيَ أَسَدُّ فِي الْعَرَبِيَّةِ مِنْ جَعَلَ، " وَلَا إِذْ كُنْتُ " صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ؛ لِأَنَّ وَاوَ الْعَطْفِ مَانِعَةٌ، وَيَجُوزُ كَوْنُهَا لِلْحَالِ لَكِنَّهُ بَعِيدٌ مُتَكَلَّفٌ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ كَلَامَهُ مُوهِمٌ بِأَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُ تَكْذِيبٌ بِالْقُرْآنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ إِذَا لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً بِالتَّوَاتُرِ فَإِنْكَارُهَا لَمْ يَكُنْ تَكْذِيبًا لِلْقُرْآنِ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ صُورَةَ التَّكْذِيبِ لَا حَقِيقَتَهُ، مَعَ أَنَّهُ خُطُورٌ لَيْسَ فِيهِ مَحْظُورٌ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ فِي وُقُوعِهِ مَعْذُورٌ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النَّوَوِيِّ: مَعْنَاهُ وَسْوَسَ إِلَيَّ الشَّيْطَانُ تَكْذِيبًا أَشَدَّ مِمَّا كُنْتُ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ غَافِلًا، أَوْ مُتَشَكِّكًا، وَحِينَئِذٍ دَخَلَ الشَّكُّ فِي الْيَقِينِ اهـ. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِدُخُولِ الشَّكِّ دُخُولًا عَلَى وَجْهِ الْوَسْوَسَةِ لِيُلَائِمَ أَوَّلَ كَلَامِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْوَسْوَسَةِ دُخُولُ الشَّكِّ عَلَى وَجْهِ الْحُصُولِ وَالِاسْتِقْرَارِ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ إِدْرَاجُهُ مَعَ بَقِيَّةِ الشُّرَّاحِ فِي الِاعْتِرَاضِ كَمَا فَعَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ فَتَأَمَّلْ وَتَدَبَّرْ (فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا قَدْ غَشِيَنِي) : أَيْ أَتَانِي مِنْ آثَارِ الْخَجَالَةِ وَعَلَامَاتِ النَّدَامَةِ، أَوْ لَمَّا عَلِمَ مَا فِي خَاطِرِي بِالْمُعْجِزَةِ مِنْ حُصُولِ الْوَسْوَسَةِ (ضَرَبَ صَدْرِي) إِمَّا لِلتَّأْدِيبِ، وَإِمَّا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute