فِي الْمَوَاهِبِ، وَالْمَعْنَى أَنَّكَ فِي جَمْعِهِ وَكِتَابَتِهِ مُؤْتَمَنٌ (فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنِ) أَمْرٌ مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ: أَيْ بَالِغْ فِي تَحْصِيلِهِ مِنَ الْمَوَاضِعِ الْمُتَفَرِّقَةِ (فَاجْمَعْهُ) : أَيْ جَمْعًا كُلِّيًّا فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ مُحَافَظَةً لِلْمُرَاجَعَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ (فَوَاللَّهِ) : أَيْ قَالَ زَيْدٌ فَوَاللَّهِ (لَوْ كَلَّفُونِي) : أَيْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَنْ تَبِعَهُمَا، أَوْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَالْجَمْعُ لِلتَّعْظِيمِ (نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ) : أَيْ وَكَانَ مِمَّا يُمْكِنُ نَقْلُهُ (مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقِرْآنِ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَعَبُ الْجُثَّةِ وَهَذَا فِيهِ تَعَبُ الرُّوحِ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مُبَاحٌ، وَكَانَ هَذَا بِزَعْمِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الشَّرِيعَةِ، وَلِهَذَا (قَالَ) : أَيْ زَيْدٌ (فَقُلْتُ) : أَيْ لِأَبِي بَكْرٍ، أَوْ مَعَ عُمَرَ (كَيْفَ تَفْعَلُونَ) وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَغْلِيبِ الْخِطَابِ (شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ أَيْضًا، فَكَأَنَّهُ مَا اكْتَفَى بِمَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يَنْشَرِحْ صَدْرُهُ بَعْدُ، وَلَمْ يَرْضَ بِالتَّقْلِيدِ، مَعَ اسْتِصْعَابِهِ الْقَضِيَّةَ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ الْقُرْآنِ بِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ (قَالَ) : أَيْ أَبُو بَكْرٍ (هُوَ) : أَيِ الْجَمْعُ (وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي) : أَيْ يَذْكُرُ أَبُو بَكْرٍ السَّبَبَ وَأَنَا أَدْفَعُ (حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ) : أَيِ اللَّهُ (لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ) ، قِيلَ إِنَّمَا لَمْ يَجْمَعْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقُرْآنَ فِي الْمُصْحَفِ لِمَا كَانَ يَتَرَقَّبُهُ مِنْ وُرُودِ نَاسِخٍ لِبَعْضِ أَحْكَامِهِ أَوْ تِلَاوَتِهِ، فَلَمَّا انْقَضَى نُزُولُهُ بِوَفَاتِهِ، أَلْهَمَ اللَّهُ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ ذَلِكَ وَفَاءً بِوَعْدِهِ الصَّادِقِ بِضَمَانِ حِفْظِهِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَكَانَ ابْتِدَاءُ ذَلِكَ عَلَى يَدِ الصِّدِّيقِ بِمَشُورَةِ عُمَرَ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «لَا تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ» " الْحَدِيثَ فَلَا يُنَافَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي كِتَابَةٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَقَدْ كَانَ كُلُّهُ كُتِبَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنْ غَيْرَ مَجْمُوعٍ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَلَا مُرَتَّبِ السُّوَرِ، وَقَالَ الْحَارِثُ الْمُحَاسَبِيُّ فِي كِتَابِ فَهْمِ السُّنَنِ: كِتَابَةُ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ بِمُحْدَثَةٍ فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْمُرُ بِكِتَابَتِهِ وَلَكِنَّهُ كَانَ مُفَرَّقًا فِي الْوُقُوعِ وَنَحْوِهَا، وَإِنَّمَا أَمَرَ الصِّدِّيقُ بِنَسْخِهَا مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ مُجْتَمِعًا، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَوْرَاقٍ وُجِدَتْ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا الْقُرْآنُ مُنْتَشِرًا فَجَمَعَهَا جَامِعٌ وَرَبَطَهَا بِخَيْطٍ حَتَّى لَا يَضِيعَ مِنْهَا شَيْءٌ كَذَا فِي الْإِتْقَانِ (فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ) حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ، أَوِ الْمَفْعُولِ (مِنَ الْعُسُبِ) بِضَمَّتَيْنِ، جَمْعُ عَسِيبٍ جَرِيدَةٌ مِنَ النَّخْلِ وَهِيَ السَّعَفَةُ مِمَّا لَا يَنْبُتُ عَلَيْهِ الْخُوصُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَزَادَ فِي الْقَامُوسِ حَيْثُ قَالَ: جَرِيدَةٌ مِنَ النَّخْلِ مُسْتَقِيمَةٌ دَقِيقَةٌ مُكْشَطٌ خُوصُهَا، وَالَّذِي يَنْبُتُ عَلَيْهِ الْخُوصُ مِنَ السَّعَفِ وَالسَّعَفُ مُحَرَّكَةٌ جَرِيدُ النَّخْلِ، أَوْ وَرَقُهُ، وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ إِذَا يَبِسَ (وَاللِّخَافِ) بِكَسْرِ اللَّامِ جَمْعُ لَخِفَةٍ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ الْمَكْسُورَةِ، وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْبِيضُ الرِّقَاقُ الَّتِي كَانَتْ فِي أَيْدِي الْقُرَّاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَفَّى رِوَايَةٍ: وَالرِّقَاعِ وَهِيَ جَمْعُ رُقْعَةٍ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ جِلْدٍ، أَوْ وَرَقٍ، وَفَى أُخْرَى وَقِطَعِ الْأَدِيمِ، وَفَى أُخْرَى وَالْأَكْتَافِ، وَفَى أُخْرَى وَالْأَضْلَاعِ، وَهُوَ جَمْعُ كَتِفٍ أَوْ ضِلْعٌ يَكُونُ لِلْبَعِيرِ وَالشَّاةِ كَانُوا إِذَا جَفَّ كَتَبُوا عَلَيْهِ، وَفِي أُخْرَى وَالْأَقْتَابِ جَمْعُ قَتَبٍ وَهُوَ الْخَشَبُ الَّذِي يُوضَعُ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ لِيُرْكَبَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَكْتُبُونَ فِي ذَلِكَ لِعِزَّةِ الْوَرَقِ عِنْدَهُمْ يَوْمَئِذٍ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، أَوْ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَلْوَاحِ لِيَحْفَظُوهَا ثُمَّ يَغْسِلُوهَا وَيَمْحُوهَا (وَصُدُورِ الرِّجَالِ) أَيْ: الْحُفَّاظِ مِنْهُمْ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ وَقَعَتِ الثِّقَةُ بِأَصْحَابِ الرِّقَاعِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ، قِيلَ: لِأَنَّهُمْ كَانَ يُبْدُونَ عَنْ تَأْلِيفٍ مُعْجِزٍ وَمُنَظَّمٍ مَعْرُوفٍ وَقَدْ شَاهَدُوا تِلَاوَتَهُ مِنَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عِشْرِينَ سَنَةً فَكَانَ تَزْوِيرُ مَا لَيْسَ مِنْهُ مَأْمُونًا، وَإِنَّمَا كَانَ الْخَوْفُ مِنْ ذَهَابِ شَيْءٍ مِنْ صَحِيحِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالَّذِينَ جَمَعُوا الْقُرْآنَ بِأَنْ حَفِظُوهُ كُلَّهُ فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ هَذَا، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَبُو زَيْدٍ، وَفَّى رِوَايَةٍ ذِكْرُ أَبِي الدَّرْدَاءِ مِنْهُمْ (حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ) بِضَمِّ الْخَاءِ وَفَتْحِ الزَّايِ (الْأَنْصَارِيِّ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَذْكُورُ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ مِنَ الصَّحَابَةِ: خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي، وَأَبُو خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيُّ السُّلَمِيُّ الْخَزْرَجِيُّ فَتَأَمَّلْ اهـ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ إِلَّا خُزَيْمَةَ، وَلَعَلَّهُ يُقَالُ لَهُ خُزَيْمَةُ وَأَبُو خُزَيْمَةَ أَيْضًا (لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ) بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلَيَّةِ أَيْ: لَمْ أَجِدْهَا مَكْتُوبَةً مَعَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَكْتَفِي بِالْحِفْظِ دُونَ الْكِتَابَةِ، قَالَهُ الْحَافِظُ أَبُو شَامَةَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا لَا يُنَافِي مَا رُوِيَ أَنَّ جَمَاعَةً حَفِظُوا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute