للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

لَمَّا قِيلَ: مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ سُئِلَ: كَيْفَ أَحْصَاهَا؟ فَأَجَابَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ، فَعَلَى هَذَا الضَّمِيرُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ مُبْتَدَأٌ، أَوِ اللَّهُ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ، وَقَوْلُهُ: الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ الْأَوَّلِ، وَالْمَوْصُولُ مَعَ الصِّلَةِ صِفَةُ اللَّهِ، وَلِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مَرَاتِبُ الْأُولَى: أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا الْمُنَافِقُ مُجَرَّدًا عَنِ التَّصْدِيقِ، وَذَلِكَ يَنْفَعُهُ فِي الدُّنْيَا بِحَقْنِ دَمِهِ وَحِرْزِ مَالِهِ وَأَهْلِهِ، الثَّانِيَةُ: أَنْ يَنْضَمَّ إِلَيْهَا عَقْدُ قَلْبٍ بِمَحْضِ التَّقْلِيدِ، وَفِي صِحَّتِهَا خِلَافٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ صَحِيحٌ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ مَعَهَا اعْتِقَادٌ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْأَمَارَاتِ وَالْأَكْثَرُ عَلَى اعْتِبَارِهَا. الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ مَعَهَا اعْتِقَادٌ حَازِمٌ مِنْ جِهَةٍ قَاطِعَةٍ وَهِيَ مَقْبُولَةٌ اتِّفَاقًا. وَالْخَامِسَةُ: أَنْ يَكُونَ الْمُتَكَلِّمُ مُكَاشِفًا بِمَعْنَاهَا مُعَايِنًا بِبَصِيرَتِهِ، وَهَذِهِ هِيَ الرُّتْبَةُ الْعُلْيَا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَا نُقِلَ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ إِيمَانِ الْعَوَّامِّ كَذِبٌ عَلَيْهِ، عَلَى أَنَّ أَكْثَرَهُمْ غَيْرُ مُقَلِّدٍ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ تَرْتِيبِ الْبُرْهَانِ بِذَلِكَ عَلَى قَوَاعِدِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَأَوْلَى مِنْ هَذَا مَنْ لَهُ اعْتِقَادٌ نَشَأَ مِنْ ظَنِّيٍّ، ثُمَّ مَنْ نَشَأَ اعْتِقَادُهُ عَنْ قَطْعِيٍّ وَاعْتَرَفَ بِهِ، فَلَا خِلَافَ فِي كَمَالِ إِيمَانِهِ وَنَفْعِهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ بِالْقَلْبِ فَقَطْ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ اللِّسَانِ بِنَحْوِ خَرَسٍ نَفَعَتْ فِيهِمَا اتِّفَاقًا أَيْضًا، أَوْ لَا لِعُذْرٍ لَمْ يَنْفَعْهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنْ إِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ، لَكِنْ ذَهَبَ الْغَزَالِيُّ، وَتَبِعَهُ جَمْعٌ مُحَقِّقُونَ إِلَى نَفْعِهَا فِيهِمَا. قُلْتُ: لَكِنْ بِشَرْطِ عَدَمِ طَلَبِ الْإِقْرَارِ مِنْهُ، إِنَّهُ إِنْ أَبَى بَعْدَ ذَلِكَ فَكَافِرٌ إِجْمَاعًا لِقَضِيَّةِ أَبِي طَالِبٍ.

قَالَ أَهْلُ الْإِشَارَةِ: إِذَا كَانَ مُخْلِصًا فِي مَقَالَتِهِ كَانَ دَاخِلًا فِي الْجَنَّةِ فِي حَالَتِهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: ٤٦] قِيلَ: جَنَّةٌ مُعَجَّلَةٌ وَهِيَ حَلَاوَةُ الطَّاعَةِ وَلَذَّةُ الْمُنَاجَاةِ، وَجَنَّةٌ مُؤَجَّلَةٌ وَهِيَ قَبُولُ الْمَثُوبَةِ وَعُلُوُّ الدَّرَجَةِ اهـ. قَالَ الْقُشَيْرِيِّ: هُوَ لِلْإِشَارَةِ وَهُوَ عِنْدَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ إِخْبَارٌ عَنْ نِهَايَةِ التَّحْقِيقِ، فَإِذَا قِيلَ هُوَ لَا يَسْبِقُ إِلَى قُلُوبِهِمْ غَيْرُ الْحَقِّ، فَيَكْتَفُونَ عَنْ كُلِّ بَيَانٍ يَتْلُوهُ لِاسْتِهْلَاكِهِمْ فِي حَقَائِقِ الْقُرْبِ، وَاسْتِيلَاءِ ذِكْرِ الْحَقِّ عَلَى أَسْرَارِهِمْ، وَانْمِحَائِهِمْ عَنْ شُهُودِهِمْ، فَضْلًا عَنْ إِحْسَاسِهِمْ بِمَنْ سِوَاهُ. قِيلَ: اللَّهُ أَصْلُهُ لَاهَا بِالسُّرْيَانِيَّةِ فَعُرِّبَ، وَقِيلَ عَرَبِيٌّ وُضِعَ فِي أَصْلِهِ، لِأَنَّ ذَاتَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ بِلَا اعْتِبَارٍ أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ أَوْ غَيْرُهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ لِلْبَشَرِ، فَلَا يُمْكِنُهُ وَضْعُ اللَّفْظِ وَلَا الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ بِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ لَمَّا غَلَبَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ، وَصَارَ كَالْعَلَمِ أُجْرِيَ مَجْرَاهُ فِي إِجْرَاءِ الْأَوْصَافِ عَلَيْهِ، وَامْتِنَاعِ الْوَصْفِ بِهِ وَعَدَمِ تَطَرُّقِ احْتِمَالِ الشَّرِكَةِ إِلَيْهِ وَمَعْنَاهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ، ثُمَّ قِيلَ: مُشْتَقٌّ مِنْ أَلَهَ كَعَبَدَ وَزْنًا وَمَعْنًى وَتَصَرُّفًا، فَالْإِلَهُ بِمَعْنَى الْمَأْلُوهِ، وَقِيلَ: مِنْ لَاهَ يَلِيهِ لَيْهًا وَلَاهًا أَيْ: احْتَجَبَ وَارْتَفَعَ لِأَنَّهُ مَحْجُوبٌ عَنْ إِدْرَاكِ الْأَبْصَارِ مُرْتَفِعٌ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَقِيلَ: مِنْ أَلِهَ أَيْ: تَحَيَّرَ وَوَلِهَ وَزْنًا وَمَعْنًى لِتَحَيُّرِ الْعُقُولِ فِي مَعْرِفَةِ صِفَاتِهِ، فَضْلًا عَنْ مَعْرِفَةِ ذَاتِهِ، وَقِيلَ: مِنْ أَلِهَ أَيْ فَزِعَ إِذْ يَفْزَعُ النَّاسُ مِنْهُ وَإِلَيْهِ وَقِيلَ: مِنْ أَلَهْتُ إِلَى كَذَا أَيْ: سَكَنْتُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقُلُوبَ تَطْمَئِنُّ بِذِكْرِهِ، وَالْأَرْوَاحَ تَسْكُنُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ. وَهَذَا الِاسْمُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَعْظَمُ التِّسْعَةِ وَالتِسْعِينَ؛ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى الذَّاتِ الْجَامِعَةِ لِصِفَاتِ الْإِلَهَيَّةِ كُلِّهَا، وَقَدْ قَالَ الْقُطْبُ الرَّبَّانِيُّ السَّيِّدُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيُّ: الِاسْمُ الْأَعْظَمُ هُوَ اللَّهُ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ تَقُولَ: (اللَّهُ) وَلَيْسَ فِي قَلْبِكَ سِوَى اللَّهِ. قِيلَ: هَذَا الِاسْمُ لِلْعَوَامِّ إِجْرَاؤُهُ عَلَى اللِّسَانِ وَالذِّكْرُ بِهِ عَلَى مَوْجُودٍ فَائِضِ الْجُودِ، جَامِعٍ لِلصِّفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَمَنْعُوتٍ بِنُعُوتِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَلِخَوَاصِّ الْخَوَاصِّ أَنْ يَسْتَغْرِقَ قَلْبُهُمْ بِاللَّهِ، فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى أَحَدٍ سِوَاهُ، وَلَا يَرْجُو وَيَخَافُ فِيمَا يَأْتِي وَيَذَرُ إِلَّا إِيَّاهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ الثَّابِتُ وَمَا سِوَاهُ بَاطِلٌ، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ:

أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ

» .

ثُمَّ قِيلَ: إِنْ أُرِيدَ بِالْإِلَهِ الْأَعَمُّ كَانَ التَّقْدِيرُ، لَا إِلَهَ مَعْبُودٌ بِحَقٍّ إِلَّا هُوَ أَوِ الْأَخَصُّ وَهُوَ الْمَعْبُودُ بِحَقٍّ، فَالتَّقْدِيرُ لَا إِلَهَ مَوْجُودٌ إِلَّا هُوَ، وَعَلَى كُلٍّ فَمَحْمِلٌ هُوَ الرَّفْعُ وَيَجُوزُ النَّصْبُ.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مُفَادُ هَذَا النَّفْيِ وَمَا بَعْدَهُ غَايَةُ الْإِثْبَاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ: لَا أَخَ لِي سِوَاكَ آكَدُ مِنْ: أَنْتَ أَخِي، فَمُفَادُهَا نَفْيُ مَا اسْتَحَالَ وُجُودُهُ مِنْ أَصْلِهِ وَهُوَ الشَّرِيكُ، وَإِثْبَاتُ مَا اسْتَحَالَ عَدَمُهُ وَهُوَ الذَّاتُ الْعَلِيُّ، وَالْمُرَادُ

<<  <  ج: ص:  >  >>