للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

(الْحَفِيظُ) : أَيِ: الْبَالِغُ فِي الْحِفْظِ يَحْفَظُ الْمَوْجُودَاتِ مِنَ الزَّوَالِ وَالِاخْتِلَالِ مُدَّةَ مَا شَاءَ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: ٢٥٥] أَيِ: السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، أَوْ يَحْفَظُ عَلَى الْعِبَادِ أَعْمَالَهُمْ وَأَقْوَالَهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [الأنعام: ١٠٧] وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنْ تَحْفَظَ جَوَارِحَكَ عَنِ الْأَوْزَارِ، وَبَاطِنَكَ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْأَغْيَارِ، وَتَكْتَفِيَ فِي جَمِيعِ أُمُورِكَ بِتَدْبِيرِهِ، وَتَرْضَى بِحُسْنِ قَضَائِهِ وَتَقْدِيرِهِ. قِيلَ: مَنْ حَفِظَ لِلَّهِ جَوَارِحَهُ حَفِظَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَلْبَهُ، وَمَنْ حَفِظَ لِلَّهِ قَلْبَهُ حَفِظَ عَلَيْهِ حَظَّهُ. وَحُكِيَ أَنَّهُ وَقَعَ مِنْ بَعْضِ الصَّالِحِينَ بَصَرُهُ يَوْمًا عَلَى مَحْظُورٍ فَقَالَ: إِلَهِي إِنَّمَا أُرِيدُ بَصَرِي لِأَجْلِكَ، فَإِذَا صَارَ سَبَبًا لِمُخَالَفَةِ أَمْرِكَ، فَاسْلُبْنِيهِ. فَعَمِيَ، وَكَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فَاحْتَاجَ الْمَاءَ لِلطَّهَارَةِ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ فَقَالَ: إِلَهِي إِنَّمَا قُلْتُ خُذْ بَصَرِي لِأَجْلِكَ، فَفِي اللَّيْلِ أَحْتَاجُهُ لِأَجْلِكَ. فَعَادَ إِلَيْهِ بَصَرُهُ.

(الْمُقِيتُ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ. أَيْ: خَالِقُ الْأَقْوَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَالْأَرْزَاقِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَمُوَصِّلُهَا إِلَى الْأَشْبَاحِ وَمُعْطِيهَا لِلْأَرْوَاحِ، مِنْ أَقَاتَهُ يُقِيتُهُ: إِذَا أَعْطَاهُ قُوتَهُ.

وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: ( «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضِيِّعَ مَنْ يُقِيتُ» ) . فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ. وَقِيلَ: هُوَ الْمُقْتَدِرُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، وَقِيلَ هُوَ الشَّاهِدُ الْمُطَّلِعُ عَلَى الشَّيْءِ مِنْ أَقَاتَ الشَّيْءَ: إِذَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ، فَهُوَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَهُمَا أَنْسَبُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء: ٨٥] وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمُقِيتُ اسْمٌ جَامِعٌ لِمَعْنَى الِاقْتِدَارِ عَلَى حُكْمِ الْمُوَازَنَةِ مِنْ حَيْثُ إِحَاطَةُ الْعِلْمِ وَإِقَامَةُ الْكَفَافِ بِالْقُوتِ الْمُقَدَّرِ لِلْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ وَزِيَادَةٍ، وَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْحُسْنِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ فِيهِ مَا فِيهِ وَلَمْ يُظْهِرْ مَا فِيهِ، وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنَّكَ إِذَا عَرِفْتَ أَنَّهُ الْمُقِيتُ نَسِيتَ ذِكْرَ الْقُوتِ بِذِكْرِهِ، كَمَا اتَّفَقَ لِسَهْلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْقُوتِ، فَقَالَ: هُوَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَلَعَلَّهُ انْتَقَلَ مِنَ السَّبَبِ إِلَى الْمُسَبِّبِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّمَا سَأَلْنَاكَ عَنِ الْقِوَامِ فَقَالَ: الْقِوَامُ الْعِلْمُ، فَكَأَنَّهُ انْتَقَلَ مِنْ قِوَامِ الْأَشْبَاحِ إِلَى قِوَامِ الْأَرْوَاحِ، فَإِنَّ كُلَّ إِنَاءٍ يَتَرَشَّحُ بِمَا فِيهِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّمَا سَأَلْنَاكَ عَنْ طُعْمَةِ الْجَسَدِ، فَقَالَ: مَا لَكَ وَالْجَسَدَ دَعْ مَنْ تَوَلَّاهُ أَوَّلًا يَتَوَلَّاهُ آخِرًا، أَمَا رَأَيْتَ الصَّنْعَةَ إِذَا عِيبَتْ رُدَّتْ لِصَانِعِهَا لِأَنَّهُ الْعَالِمُ بِإِصْلَاحِهَا، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّنَا نَحْنُ مَأْمُورُونَ بِإِصْلَاحِ الْبَاطِنِ مَكْفِيُّونَ عَنْ إِصْلَاحِ الظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ هُوَ الْمُصْلِحَ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَرَدَ: ( «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» ) . وَحِينَئِذٍ فَتَقَرُّبُكَ بِهِ تَعَلُّقًا أَنْ لَا تَطْلُبَ الْقُوتَ وَالْقُوَّةَ إِلَّا مِنْ مَوْلَاكَ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: ٢١] وَتَخَلُّقًا أَنْ تُعْطِيَ كُلَّ مَنْ تَعَلَّقَ بِكَ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْقُوتِ، فَفِي الْحَدِيثِ " ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ " فَيَكُونُ دَأْبُكَ النَّفْعَ وَالْهَدِايَةَ، وَإِطْعَامَ الْجَائِعِ، وَإِرْشَادَ الْغَاوِي.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: اخْتَلَفَتِ الْأَقْوَاتُ فَمِنْ عِبَادِهِ مَنْ يَجْعَلُ قُوتَ نَفْسِهِ تَوْفِيقَ الْعِبَادَاتِ، وَقُوتَ قَلْبِهِ تَحْقِيقَ الْمُكَاشَفَاتِ، وَقُوتَ رُوحِهِ مُدَاوَمَةَ الْمُشَاهَدَاتِ، وَمُلَازَمَةَ الْمُؤْنِسَاتِ، خَصَّ كُلًّا بِمَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْحَالَاتِ وَالْمَقَامَاتِ، وَإِذَا شَغَلَ اللَّهُ عَبْدًا بِطَاعَتِهِ أَقَامَ لَهُ مَنْ يَقُومُ بِشُغْلِهِ وَخِدْمَتِهِ، وَإِذَا رَجَعَ إِلَى مُتَابَعَةِ شَهْوَتِهِ، وَكَلَهُ إِلَى حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ وَرَفَعَ عَنْهُ ظِلَّ عِنَايَتِهِ وَحِمَايَتِهِ.

(الْحَسِيبُ) : أَيِ: الْكَافِي مِنَ الْحَسْبِ بِسُكُونِ السِّينِ، وَهُوَ الِاكْتِفَاءُ أَوِ الْكِفَايَةُ، مِنْ أَحْسَبَنِي: إِذَا كَفَانِي. قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: ٣] وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ بِكَسْرِ الْعَيْنِ كَأَلِيمٍ بِمَعْنَى مُؤْلِمٍ وَبَدِيعٍ بِمَعْنَى مُبْدِعٍ، أَيِ: الْمُعْطِي لِعِبَادِهِ كِفَايَتَهُمْ، أَوِ الْكَافِي لَهُمْ فِي أُمُورِهِمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: حَسْبِي: يَكْفِينِي، وَهَذَا أَتَمُّ مَبْنًى وَأَعَمُّ مَعْنًى، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَسَبِ بِفَتْحَتَيْنِ بِمَعْنَى السُّؤْدُدِ وَالشَّرَفِ، وَالْحَسِيبُ الْمُطْلَقُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَحْصُلَ الْكِفَايَةُ فِي جَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ الشَّيْءُ فِي وُجُودِهِ وَبَقَائِهِ، وَكَمَالِهِ الْجِسْمَانِيِّ وَالرُّوحَانِيِّ بِأَحَدٍ سِوَاهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>