قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ إِنْعَامِهِ انْتِظَامَ أَسْبَابِ الدُّنْيَا، وَالتَّمَكُّنَ مِنْ تَحْصِيلِ الْمُنَى، وَالْوُصُولَ إِلَى الْهَوَى، بَلْ أَلْطَافُ اللَّهِ فِيمَنْ يَزْوِي عَنْهُمُ الدُّنْيَا أَكْبَرُ، وَإِحْسَانُهُ إِلَيْهِمْ أَوْفَرُ وَإِنَّ قُرْبَ الْعَبْدِ مِنَ الرَّبِّ عَلَى حَسَبِ تَبَاعُدِهِ مِنَ الدُّنْيَا.
وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ: إِنَّ أَهْوَنَ مَا أَصْنَعُ بِالْعَالِمِ إِذَا مَالَ فِي الدُّنْيَا أَنْ أَسْلُبَهُ حَلَاوَةَ مُنَاجَاتِي وَلَذَّةَ طَاعَاتِي.
(الْحَكِيمُ) : أَيْ: ذُو الْحِكْمَةِ، وَهِيَ كَمَالُ الْعِلْمِ وَإِتْقَانُ الْعَمَلِ، أَوْ فَعَيْلٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ فَهُوَ مُبَالَغَةُ الْحَاكِمِ، فَإِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، أَوْ بِمَعْنَى الْمُفْعِلِ أَيِ الَّذِي يُحْكِمُ الْأَشْيَاءَ وَيُتْقِنُهَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: ٨٨] ، {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: ٣] ، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: ٨٢] ، فَعَلَيْكَ أَنْ تَجْتَهِدَ فِي التَّخَلُّقِ بِهِ وَالتَّعَلُّقِ بِكِتَابِهِ بِأَنْ تَسْعَى فِي تَكْمِيلِ قُوَاكَ النَّظَرِيَّةِ بِتَحْصِيلِ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ، وَاسْتِكْمَالِ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ بِتَخْلِيَةِ النَّفْسِ عَنِ الرَّذَائِلِ، وَتَحْلِيَتِهَا بِالْفَضَائِلِ، وَتَجْلِيَتِهَا بِتَحْسِينِ الشَّمَائِلِ بِمَا يُوجِبُ الزُّلْفَى إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعُلَى، وَالْقُرْبَ إِلَى الْمَوْلَى، فَإِنَّهُ تَعَالَى يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ، وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَالْحِكْمَةُ هِيَ عِلْمُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَا عُلُومُ الْفَلَاسِفَةِ.
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مِنْ حِكَمِهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ تَخْصِيصُهُ قَوْمًا بِحُكْمِ السَّعَادَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ وَسَبَبٍ، وَلَا جُهْدٍ وَلَا طَلَبٍ، بَلْ تَعَلَّقَ الْعِلْمُ الْقَدِيمُ بِإِسْعَادِهِ، وَسَبَقَ الْحُكْمُ الْأَزَلِيُّ بِإِيجَادِهِ، وَخَصَّ قَوْمًا بِطَرْدِهِ وَإِبْعَادِهِ، وَوَضَعَ قَدْرَهُ مِنْ بَيْنِ عِبَادِهِ مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ سَلَفَ، وَلَا ذَنْبٍ اقْتَرَفَ، بَلْ حَقَّتِ الْكَلِمَةُ عَلَيْهِ بِشَقَاوَتِهِ وَنَفَذَتِ الْمَشِيئَةُ بِجَحْدِ قَلْبِهِ وَقَسَاوَتِهِ، فَالَّذِي كَانَ شَقِيًّا فِي حُكْمِهِ أَبْرَزَهُ فِي نِطَاقِ أَوْلِيَائِهِ، ثُمَّ بَالَغَ فِي ذَمِّهِ حَيْثُ قَالَ: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف: ١٧٦] وَالَّذِي كَانَ سَعِيدًا فِي حُكْمِهِ خَلَقَهُ فِي غَيْرِ صُورَةِ الْكَلْبِ، ثُمَّ حَشَرَهُ فِي زُمْرَةِ أَوْلِيَائِهِ، وَذَكَرَهُ فِي جُمْلَةِ أَصْفِيَائِهِ فَقَالَ: {رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: ٢٢] . اهـ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يَسْأَلُونَ} [الأنبياء: ٢٣] وَوَرَدَ أَنَّهُ تَعَالَى يُدْخِلُ النَّارَ بَلْعَمَ بْنَ بَاعُورَا عَلَى صُورَةِ كَلْبِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَيُدْخِلُ الْجَنَّةَ كَلْبَهُمْ عَلَى صُورَةِ بَلْعَمَ، فَلَا تَغْتَرَّ بِالظَّوَاهِرِ، فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِالسَّرَائِرِ.
(الْوَدُودُ) : مُبَالَغَةُ الْوَادِّ مِنَ الْوُدِّ، وَهُوَ الْحُبُّ أَيِ الَّذِي يُحِبُّ الْخَيْرَ لِكُلِّ الْخَلَائِقِ، وَقِيلَ الْمُحِبُّ لِأَوْلِيَائِهِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: ١٣٤] ، {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: ٤٠] وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى إِرَادَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَقِيلَ: فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فَاللَّهُ مَحْبُوبٌ فِي قُلُوبِ مَخْلُوقَاتِهِ، مَطْلُوبٌ لِجَمِيعِ مَصْنُوعَاتِهِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ كَمَا فِي نَظَرِ أَرْبَابِ الشُّهُودِ، أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَوْنِ لِغَيْرِهِ وُجُودٌ، فَهُوَ الْوَادُّ وَهُوَ الْوَدُودُ، كَمَا أَنَّهُ الْحَامِدُ وَالْمَحْمُودُ، وَالشَّاهِدُ وَالْمَشْهُودُ، لَيْسَ فِي الدَّارِ غَيْرُهُ دَيَّارٌ، وَحَظُّ الْعَبْدِ مِنْهُ أَنْ يُرِيدَ لِلْخَلْقِ مَا يُرِيدُ فِي حَقِّهِ وَيُحْسِنَ إِلَيْهِمْ حَسَبَ قُدْرَتِهِ وَوُسْعِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: ( «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» ) .
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مَعْنَى الْوَدُودِ فِي وَصْفِهِ أَنَّهُ يَوَدُّ الْمُؤْمِنِينَ وَيَوَدُّونَهُ قَالَ تَعَالَى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: ٥٤] وَمَعْنَى الْمَحَبَّةِ فِي صِفَةِ الْحَقِّ لِعِبَادِهِ: رَحْمَتُهُ عَلَيْهِمْ وَإِرَادَتُهُ لِلْجَمِيلِ لَهُمْ وَمَدْحُهُ لَهُمْ، وَمَحَبَّةُ الْعِبَادِ لِلَّهِ تَعَالَى تَكُونُ بِمَعْنَى طَاعَتِهِمْ لَهُ وَمُوَافَقَتِهِمْ لِأَمْرِهِ، وَتَكُونُ بِمَعْنَى تَعْظِيمِهِمْ لَهُ وَهَيْبَتِهِمْ مِنْهُ. اهـ. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنَ وُدًّا} [مريم: ٩٦] أَيْ: فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، أَوْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، وَلَا مَانِعَ مِنَ الْجَمْعِ، وَفِي الْأَثَرِ الْقُدُسِيِّ أَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: «إِنَّ أَوَدَّ الْأَوَدِّ إِلَيَّ مَنْ يَعْبُدُنِي لِغَيْرِ نَوَالٍ، لَكِنْ لِيُعْطِيَ الرُّبُوبِيَّةَ حَقَّهَا» .
(الْمَجِيدُ) : هُوَ مُبَالَغَةُ الْمَاجِدِ مِنَ الْمَجْدِ، وَهُوَ سَعَةُ الْكَرَمِ، فَهُوَ الَّذِي لَا تُدْرَكُ سَعَةُ كَرَمِهِ، وَلَا يَتَنَاهَى تَوَالِي إِحْسَانِهِ وَنِعَمِهِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَمِنْ أَعْظَمِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ حِفْظُهُ عَلَيْهِمْ تَوْحِيدَهُمْ وَدِينَهُمْ، حَتَّى لَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute