السَّدَادِ وَدَفَعُوا مَا وَسْوَسَ بِهِ إِلَيْهِمْ (فَقَالُوا لِلرَّجُلِ) أَيْ: بَعْدَ سُكُونِهِ لِكَمَالِ غَضَبِهِ (لَا تَسْمَعُ) وَفِي نُسْخَةٍ أَلَا تَسْمَعُ (مَا يَقُولُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟) أَيْ: فَتَمْتَثِلُ وَتَقُولُ ذَلِكَ (قَالَ: إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ) قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يُهَذَّبْ بِأَنْوَارِ الشَّرِيعَةِ وَلَمْ يَتَفَقَّهْ بِالدِّينِ، وَتَوَهَّمَ أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ مَخْصُوصَةٌ بِالْجُنُونِ، وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّ الْغَضَبَ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ وَلِذَا يَخْرُجُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنِ اعْتِدَالِ حَالِهِ وَيَتَكَلَّمُ بِالْبَاطِلِ وَيَفْعَلُ الْمَذْمُومَ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ قَالَ لَهُ أَوْصِنِي ( «لَا تَغْضَبْ) فَرَدَّدَ مِرَارًا فَقَالَ: (لَا تَغْضَبْ» ) وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ فِي الْوَصِيَّةِ عَلَى لَا تَغْضَبْ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَظِيمِ مَفْسَدَةِ الْغَضَبِ وَمَا يَنْشَأُ مِنْهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ أَوْ مِنْ جُفَاةِ الْأَعْرَابِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى غَيْرَ أَنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ، «فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَقَالَ: أَتَرَى بِي بَأْسًا؟ أَمْجَنُونٌ أَنَا؟ اذْهَبْ» ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ ذَلِكَ الرَّجُلُ هُوَ مُعَاذٌ، فَهَذَا أَيْضًا نَشَأَ عَنْ غَضَبٍ وَقِلَّةِ احْتِمَالٍ وَسُوءِ أَدَبٍ اهـ وَكَوْنُهُ مُعَاذًا إِنْ صَحَّ وَأَنَّهُ ابْنُ جَبَلٍ تَعَيَّنَ تَأْوِيلُهُ بِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْهُ قُرْبَ إِسْلَامِهِ اهـ أَيْ: وَصَدَرَ عَنْهُ مِنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ شَدِيدِ الْفَرَحِ وَكَثِيرِ الْخَوْفِ ; لِأَنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي آخِرِ الْأَمْرِ صَارَ مِنْ أَجِلَّاءِ الصَّحَابَةِ وَأَكَابِرِهِمْ بِبَرَكَةِ تَرْبِيَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الَّذِي هُوَ الْحَبِيبُ وَالطَّبِيبُ لِلْعُشَّاقِ وَالْمَجَانِينِ، إِلَى أَنْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَقِّهِ: " «أَعْلَمُ أُمَّتِي بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ» " وَوَلَّاهُ الْيَمَنَ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يَا مُعَاذُ إِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي فَإِذَا فَرَغْتَ مِنْ صَلَاتِكَ فَقُلِ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» " وَيُؤَيِّدُ مَا تَقَرَّرَ فِيهِ قَوْلُهُ وَطَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُوصِيَهُ، «فَقَالَ لَهُ: لَا تَغْضَبْ، فَأَعَادَ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا تَغْضَبْ» " (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute