فِي قَوْلِهِ: وَأَسْأَلُكَ، لِأَنَّهَا نَظِيرَةُ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا وَآتِنَا} [آل عمران: ١٩٤] (وَأَسْأَلُكَ) : عَطْفٌ عَلَى أَنْشُدُكَ الْمُقَدَّرِ (خَشْيَتَكَ) : أَيْ: الْخَوْفَ مِنْ مُخَالَفَتِكَ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ مُعَاقَبَتِكَ (فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) : أَيْ: فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ ( «وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ» ) : أَيْ: فِي حَالِ رِضَا الْخَلْقِ وَغَضَبِهِمْ، أَوْ فِي حَالِ رِضَائِي وَغَضَبِي، أَيْ أَكُونُ مُسْتَمِرًّا عَلَيْهَا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِي وَأَوْقَاتِي.
وَزَادَ فِي الْحِصْنِ: وَكَلِمَةَ الْإِخْلَاصِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِكَلِمَةِ الْحَقِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [الرعد: ١٤] أَيْ: دَعْوَةُ التَّوْحِيدِ الْمُطْلَقِ وَالشَّرْعِ الْمُحَقَّقِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِكَلِمَةِ الْحَقِّ الْحُكْمُ بِالْعَدْلِ، وَبِكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ التَّوْحِيدُ أَوِ النَّصِيحَةُ الْخَالِصَةُ عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، فَحِينَئِذٍ يَتَنَازَعَانِ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ.
وَأَمَّا تَفْسِيرُ ابْنِ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ: كَلِمَةَ الْحَقِّ بِمَا لَا إِثْمَ فِيهِ، فَفِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ، بَلْ غَيْرُ صَحِيحٍ، إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلُ اللَّهَ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى الْكَلَامِ الْمُبَاحِ، وَهُوَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقُولُ: ( «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» ) . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: ٣] .
(وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ) : أَيْ: الِاقْتِصَادَ وَهُوَ التَّوَسُّطُ (فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى) : وَهُوَ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ: الْكَفَافُ أَفْضَلُ مِنَ الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَتْرُوكَةٌ مِنَ الْحِصْنِ.
وَذَهَبَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ تَوْفِيقُ الْقَصْدِ، وَقَالَ: لِأَنَّ غَيْرَ الْقَصْدِ مَذْمُومٌ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: ٢٩] الْآيَةَ.
وَالظَّاهِرَةُ أَنَّ الْمَقَامَ بِأَبِيٍّ عَنِ الْحَمْلِ عَلَيْهِ سَابِقًا وَلَاحِقًا، فَإِنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ فِي امْتِثَالِ الْمَأْمُورَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَإِلَّا فَالْأَوْلَى بِالذِّكْرِ كَثِيرٌ، مَعَ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ مُخَالَفَةُ مَأْمُورٍ وَلَا مُبَاشَرَةُ مَحْظُورٍ.
( «وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ» ) : بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: لَا يَفْنَى وَلَا يَنْقُصُ، وَهُوَ نُعَيْمُ الْجَنَّةِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ.
( «وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ» ) : وَلَفْظُ الْحِصْنِ: وَقُرَّةَ عَيْنٍ بِالْعَطْفِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ الْفِعْلِ (لَا تَنْقَطِعُ) : وَالْمُرَادُ بِهِ كُلُّ مَا يَتَلَذَّذُ بِهِ الْإِنْسَانُ الْكَامِلُ، وَقِيلَ يُحْتَمَلُ طَلَبُ نَسْلٍ لَا يَنْقَطِعُ، وَلَعَلَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: ٧٤] وَقِيلَ: أَرَادَ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى الصَّلَاةِ، وَقَدْ وَرَدَ: وَقُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ.
( «وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا» ) : وَهُوَ مَقْصُورٌ مَصْدَرٌ مَحْضٌ، وَالِاسْمُ الرِّضَا الْمَمْدُودُ كَذَا وَذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ. (بَعْدَ الْقَضَاءِ) : فَإِنَّهُ الْمَقَامُ الْأَفْخَمُ وَبَابُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، قِيلَ فِي وَجْهِ الْأَوَّلِ كَأَنَّهُ طَلَبَ الرِّضَا بَعْدَ تَحَقُّقِ الْقَضَاءِ وَتُقَرِّرِهِ، وَسُئِلَ أَبُو عُثْمَانَ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ» ، عَزْمٌ عَلَى الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ قَالَ: لِأَنَّ الرِّضَا قَبْلَ الْقَضَاءِ عَزْمٌ عَلَى الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ وَهُوَ الرِّضَا، كَذَا فِي الْغُنْيَةِ لِلْقُطْبِ الرَّبَّانِيِّ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيِّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ الْبَارِي.
( «وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ» ) : أَيْ: طِيبَهُ وَحُسْنَهُ، وَفِي الْحِصْنِ: وَبَرْدَ الْعَيْشِ (بَعْدَ الْمَوْتِ) لِأَنَّهُ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ. ( «وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ» ) : وَفِي الْحِصْنِ: بِالْعَطْفِ بِدُونِ أَسْأَلُكَ (إِلَى وَجْهِكَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَيَّدَ النَّظَرَ بِاللَّذَّةِ، لِأَنَّ النَّظَرَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِمَّا نَظَرُ هَيْبَةٍ وَجَلَالٍ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، وَإِمَّا نَظَرُ لُطْفٍ وَجَمَالٍ فِي الْجَنَّةِ لِيُؤْذِنَ بِأَنَّ الْمُرَادَ هَذَا، (وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ) : أَيْ: أَبَدًا سَرْمَدًا (فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ) : أَيْ: شِدَّةٍ (مُضِرَّةٍ) : الْجَارُّ إِمَّا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَالشَّوْقُ إِلَى لِقَائِكَ أَيْ: أَسْأَلُكَ شَوْقًا لَا يُؤَثِّرُ فِي سَيْرِي وَسُلُوكِي، بِحَيْثُ يَمْنَعُنِي عَنْ ذَلِكَ، وَأَنْ يَضُرَّنِي مَضَرَّةً، وَإِمَّا مُتَعَلِّقٌ بِأَحْيِنِي، الثَّانِي أَظْهَرُ مَعْنًى، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ لَفْظًا، وَيُؤَيِّدُ الثَّانِي كَوْنُهُ فِي الْحِصْنِ بِلَفْظِ: أَعُوذُ بِكَ مِنْ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ.
قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: مُتَعَلِّقُ الظَّرْفِ مُشْكِلٌ، وَلَعَلَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْقَرِينَةِ الْأَخِيرَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِكَ، سَأَلَ شَوْقًا إِلَى اللَّهِ بِحَيْثُ يَكُونُ ضَرَّاءَ غَيْرَ مُضِرَّةٍ أَيْ: شَوْقًا لَا يُؤَثِّرُ فِي سَيْرِي وَسُلُوكِي، وَإِنْ ضَرَّنِي مَضَرَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَّصِلَ بِقَوْلِهِ: أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَمَعْنَى ضَرَّاءَ غَيْرَ مُضِرَّةٍ الضُّرُّ الَّذِي يُصْبَرُ عَلَيْهِ كَمَا وَرَدَ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ( «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» ) اهـ.