يُشِيرُ بِهَا إِلَى مَا يَتَرَتَّبُ الْفَسَادُ عَلَيْهِ، ( «فَإِنَّكَ تَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ» ) : قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} [غافر: ١٩] الْخَائِنَةُ صِفَةُ النَّظْرَةِ كَالنَّظْرَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى الْمُحَرَّمِ، وَاسْتِرَاقُ النَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ، كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الرِّيَبِ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُرَادَ الْخَائِنَةُ مِنَ الْأَعْيُنِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: (وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ قَالَ صَاحِبُ الْمَدَارِكِ قَوْلُهُ: (وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) : أَيْ: وَمَا تُسِرُّهُ مِنْ أَمَانَةٍ أَوْ خِيَانَةٍ، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى أَجْنَبِيَّةٍ بِشَهْوَةٍ مُسَارَقَةً، ثُمَّ يَتَفَكَّرُ بِقَلْبِهِ فِي جَمَالِهَا، وَلَا يَعْلَمُ بِنَظْرَتِهِ وَفِكْرَتِهُ مَنْ بِحَضْرَتِهِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ كُلَّهُ.
فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ: الْخَائِنَةُ مِنْهَا وَهِيَ الَّتِي تَتَعَمَّدُ ذَلِكَ النَّظَرَ الْمُحَرَّمَ مَعَ اسْتِرَاقِهِ، حَتَّى لَا يَفْطِنَ أَحَدٌ لَهُ مَرْدُودٌ.
ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ يُرَادُ بِخَائِنَةِ الْأَعْيُنِ أَنْ يُظْهِرَ الْإِنْسَانُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ كَأَنْ يُشِيرَ بِطَرَفِ عَيْنِهِ إِلَى قَتْلِ إِنْسَانٍ، مَعَ أَنَّهُ يُظْهِرُ لَهُ الرِّضَا عَنْهُ قُلْتُ: هَذِهِ عِبَارَةٌ غَرِيبَةٌ وَإِشَارَةٌ عَجِيبَةٌ، مَعَ أَنَّهَا غَيْرُ مُطَابِقَةٍ لِلْقَضِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْحُجَّةِ الْمَسْطُورَةِ بِقَوْلِهِ: وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ أَيْ: «مِمَّنْ أُهْدِرُ دَمُهُمْ يَوْمَئِذٍ جِيءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشَفَعَ فِيهِ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَسَكَتَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُنَيْهَةً ثُمَّ شَفَعَ عُثْمَانُ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: (هَلَّا بَادَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى قَتْلِهِ حِينَ سَكَتُّ) فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلَّا أَشَرْتَ إِلَيْنَا بِقَتْلِهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يِكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ» ) وَمِنْ ثَمَّ قَالَ أَئِمَّتُنَا: مِنْ خَصَائِصِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ، وَهِيَ أَنْ يُبْطِنَ خِلَافَ مَا يُظْهِرُ إِلَّا فِي التَّوْرِيَةِ بِالْحَرْبِ أَوْ فِيهِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ وَجْهُ الِاخْتِصَاصِ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثُمَّ قَالَ: قَوْلُهُ: (وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) أَيْ تُكِنُّهُ الْقُلُوبُ وَتُضْمِرُهُ الْأَفْئِدَةُ مِنْ تَوَالِي خَطِرَاتِهَا الْمُتَنَافِيَةِ، وَفِي تَرَقٍّ لِأَنَّ هَذِهِ الْخَطِرَاتِ أَقْبَحُ مِنْ تِلْكَ النَّظَرَاتِ.
قُلْتُ: لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْخَطِرَاتِ مَعْفُوٌّ عَنْهَا بِخِلَافِ النَّظَرَاتِ الْمُعْتَمَدِ بِهَا. ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ الْكَشَّافِ: وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُرَادَ الْخَائِنَةُ مِنَ الْأَعْيُنِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: (وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ اهـ. فَإِنْ كَانَ أَخَذَهُ أَيْ تَفْسِيرَ خَائِنَةِ الْأَعْيُنِ. بِمَا مَرَّ عَنِ الْفُقَهَاءِ، فَهُوَ وَاضِحٌ لِأَنَّ خَائِنَتَهَا حِينَئِذٍ مِمَّا تُخْفِيهِ الصُّدُورُ، فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْأَعَمِّ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ مِنَ التَّغَايُرِ الْحَقِيقِيِّ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، أَوْ مِنْ تَفْسِيرِهَا بِمَا مَرَّ أَوَّلًا كَانَ مُنْدَفِعًا بِمَا قَرَّرْتُهُ مِنَ التَّرَقِّي الْمَذْكُورِ، وَبِهَذَا الْفَرْقِ الَّذِي قَرَّرْتُ بِهِ كَلَامَهُ مِنْ إِيضَاحِهِ عَلَى الْأَوَّلِ وَانْدِفَاعِهِ عَلَى الثَّانِي يُعْلَمُ مَا فِي كَلَامِ الشَّارِحِ هُنَا فَتَأَمَّلْهُ اهـ.
وَقَدْ تَأَمَّلْنَا، فَوَجَدْنَا أَنَّ الْكَشَّافَ وَالطِّيبِيَّ إِمَامَانِ مُحَقِّقَانِ مُدَقِّقَانِ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَالتَّفْسِيرِ، عَارِفَانِ بِجَوَازِ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَهُوَ فِي الْكِتَابِ كَثِيرٌ فَالْمُرَادُ مِنْ كَلَامِهِمَا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: ١٩] يَعْلَمُ الْأَحْوَالَ الْمُخْتَلِفَةَ فِي الصُّدُورِ، وَحُسْنُ التَّقَابُلِ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفِينَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَى " خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ " الْأَحْوَالَ الْكَامِنَةَ الْكَائِنَةَ فِي الْأَعْيُنِ، إِذْ هِيَ ذَاتٌ فِي مُقَابَلَةِ الصَّدْرِ، وَالْعِلْمُ بِالذَّوَاتِ أَمْرٌ ظَاهِرٌ، فَتَعَلُّقُهُ بِالْأَسْقَامِ الْمَخْفِيَّةِ أَبْلَغُ وَأَفْيَدُ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ التَّرَقِّي مِنَ الدَّقِيقِ إِلَى الْأَدَقِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: ٧] وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُمَا) : أَيْ: الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ [الْبَيْهَقِيُّ فِي: (الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute