لِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَيْ رَبِّ، إِنْ شِئْتَ " فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ» ، وَقَدْ جُمِعَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ فِي رِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) أَيْ: بِهَذَا اللَّفْظِ (وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ نَحْوَهُ) أَيْ: بِمَعْنَاهُ، وَضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بِسَنَدٍ فِيهِ رَاوٍ لَمْ يُسَمَّ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ رِجَالُ الصَّحِيحِ بِلَفْظِ، «قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَوْمَ عَرَفَةَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُطَوِّلُ لَكُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَغَفَرَ لَكُمْ إِلَّا التَّبِعَاتِ فِيمَا بَيْنَكُمْ، وَوَهَبَ مُسِيئَكُمْ لِمُحْسِنِكُمْ، وَأَعْطَى مُحْسِنَكُمْ مَا سَأَلَ، فَادْعُوا " فَلَمَّا كَانَ بِجَمْعٍ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِصَالِحِكُمْ، وَشَفَّعَ صَالِحَكُمْ فِي طَالِحِكُمْ تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ فَتَعُمُّهُمْ، ثُمَّ يُفَرِّقُ الرَّحْمَةَ فِيهِ فَتَقَعُ عَلَى كُلِّ غَائِبٍ مِمَّنْ حَفِظَ لِسَانَهُ وَيَدَهُ، وَإِبْلِيسُ وَجُنُودُهُ عَلَى جِبَالِ عَرَفَاتٍ يَنْظُرُونَ مَا يَصْنَعُ اللَّهُ بِهِمْ، فَإِذَا نَزَلَتِ الْمَغْفِرَةُ دَعَا هُوَ وَجُنُودُهُ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ يَقُولُ: كُنْتُ أَسْتَفِزُّهُمْ حِينًا مِنَ الدَّهْرِ، ثُمَّ جَاءَتِ الْمَغْفِرَةُ فَغَشِيَتْهُمْ فَيَتَفَرَّقُونَ وَهُمْ يَدْعُونَ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ» " وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ بِلَفْظِ: " «إِنَّ اللَّهَ يُطَوِّلُ عَلَى أَهْلِ عَرَفَاتٍ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ يَقُولُ: يَا مَلَائِكَتِي، انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا، أَقْبَلُوا إِلَيَّ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَجَبْتُ دُعَاءَهُمْ، وَوَهَبْتُ مُسِيئَهُمْ لِمُحْسِنِهِمْ، وَأَعْطَيْتُ مُحْسِنَهُمْ جَمِيعَ مَا سَأَلُونِي غَيْرَ التَّبِعَاتِ الَّتِي بَيْنَهُمْ، فَإِذَا أَفَاضَ الْقَوْمُ إِلَى جَمْعٍ، وَوَقَفُوا، وَعَادُوا فِي الرَّغْبَةِ، وَالطَّلَبِ إِلَى اللَّهِ فَيَقُولُ: يَا مَلَائِكَتِي، عِبَادِي، وَقَفُوا، وَعَادُوا فِي [الرَّغْبَةِ] ، وَالطَّلَبِ ; فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَجَبْتُ دُعَاءَهُمْ، وَشَفَعْتُ رَغْبَتَهُمْ، وَوَهَبْتُ مُسِيئَهُمْ لِمُحْسِنِهِمْ، وَأَعْطَيْتُ [جَمِيعَ] مَا سَأَلُونِي، وَتَحَمَّلْتُ عَنْهُمُ التَّبِعَاتِ الَّتِي بَيْنَهُمْ» ". وَرَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي " الْمُتَّفِقِ وَالْمُفْتَرِقِ " قَالَ بَعْضٌ: وَإِذَا تَأَمَّلْتَ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَا يَصْلُحُ مُتَمَسَّكًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْحَجَّ يُكَفِّرُ التَّبِعَاتِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ؟ بَلْ ذَهَبَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ إِلَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ. عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ نَصًّا فِي الْمُدَّعَى لِاحْتِمَالِهِ، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْإِجَابَةُ إِلَى الْمَغْفِرَةِ بَعْدَ أَنْ يُذِيقَهُمْ شَيْئًا مِنَ الْعَذَابِ دُونَ مَا يَسْتَحِقُّهُ، فَيَكُونُ الْخَبَرُ خَاصًّا فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، يَعْنِي: فَفَائِدَةُ الْحَجِّ حِينَئِذٍ التَّخْفِيفُ مِنْ عَذَابِ التَّبِعَاتِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ النَّجَاةِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا، وَنَصُّ الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُفَوَّضٌ إِلَى مَشِيئَتِهِ - تَعَالَى، وَحَاصِلُ هَذَا الْأَخِيرِ أَنَّهُ بِفَرْضِ عُمُومِهِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ تَحَمُّلَهُ - تَعَالَى - التَّبِعَاتِ مِنْ قَبِيلِ: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: ٤٨] ، وَهَذَا لَا تَكْفِيرَ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ فَاعِلُهُ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ، فَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْحُكْمِ بِتَكْفِيرِ الذَّنْبِ، وَتَوَقُّفِهِ عَلَى الْمَشِيئَةِ، وَلِذَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَلَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يَغُرَّ نَفْسَهُ بِأَنَّ الْحَجَّ يُكَفِّرُ التَّبِعَاتِ، فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ شُؤْمٌ، وَخِلَافُ الْجَبَّارِ فِي أَوَامِرِهِ، وَنَوَاهِيهِ عَظِيمٌ، وَأَحَدُنَا لَا يَصْبِرُ عَلَى حُمَّى يَوْمٍ، أَوْ وَجَعِ سَاعَةٍ، فَكَيْفَ يَصْبِرُ عَلَى عِقَابٍ شَدِيدٍ، وَعَذَابٍ أَلِيمٍ لَا يَعْلَمُ وَقْتَ نِهَايَتِهِ إِلَّا اللَّهُ؟ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ خَبَرُ الصَّادِقِ بِنِهَايَتِهِ دُونَ بَيَانِ غَايَتِهِ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا، وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَ ابْنِ الْمُنْذِرِ فِيمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا، وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، إِنَّ هَذَا عَامٌّ يُرْجَى أَنْ يُغْفَرَ لَهُ جَمِيعُ ذُنُوبِهِ صَغَائِرِهَا وَكَبَائِرِهَا، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْوَعْدِ الَّذِي لَا يُخْلَفُ.
وَقَدْ أَلَّفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: الْعَسْقَلَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ الْبَارِي تَأْلِيفًا سَمَّاهُ: " قُوتَ الْحُجَّاجِ فِي عُمُومِ الْمَغْفِرَةِ لِلْحَاجِّ " رَدَّ فِيهِ قَوْلَ ابْنِ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْحَدِيثَ مَوْضُوعٌ بِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنَّهُ ضَعِيفٌ، وَيُعَضَّدُ بِكَثْرَةِ طُرُقِهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ طَرَفًا مِنْهُ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ فَهُوَ صَالِحٌ عِنْدَهُ، وَأَخْرَجَهُ الْحَافِظُ ضِيَاءُ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَارَةِ مِمَّا لَيْسَ فِي [الصَّحِيحَيْنِ] . وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ، فَإِنْ صَحَّ شَوَاهِدُهُ، فَفِيهِ الْحُجَّةُ، فَإِنْ لَمْ يَصِحَّ، فَقَدْ قَالَ - تَعَالَى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: ٤٨] وَظُلْمُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا دُونَ الشِّرْكِ اهـ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا [ظَنِّيَّةً] ، فَمَا بَالُكَ بِالْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ! وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَسَائِلَ الِاعْتِقَادِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إِلَّا بِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ رِوَايَةً وَدِرَايَةً، نَعَمْ، يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ رَجَاءُ عُمُومِ الْمَغْفِرَةِ لِمَنْ حَجَّ حَجًّا مَبْرُورًا، وَسَعْيًا مَشْكُورًا، وَأَيْنَ مَنْ يَجْزِمُ بِذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، أَوْ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا أَوْ صَالِحًا فِي عُلُوِّ مَقَامِهِ هُنَالِكَ، فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ غَيْرَ الْمَعْصُومِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْخَوْفِ، وَالرَّجَاءِ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ حُسْنَ الْخَاتِمَةِ الْمَقْرُونَةِ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ، وَحُسْنَ الْعَمَلِ الْمُوجِبِ لِلْمَثُوبَةِ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ الْعُقُوبَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute