قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِنَّمَا خَصَّ الْمُحَلِّقِينَ أَوَّلًا بِالدُّعَاءِ دُونَ الْمُقَصِّرِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ أَخَذُوا مِنْ أَطْرَافِ شُعُورِهِمْ، وَلَمْ يَحْلِقُوا؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَنْ أَحْرَمَ مَعَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، وَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدْ سَاقَ الْهَدْيَ، وَمَنْ مَعَهُ الْهَدْيُ، فَإِنَّهُ لَا يَحْلِقُ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ، فَلَمَّا أَمَرَ مَنْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يَحْلِقَ وَيَحِلَّ، وَوَجَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ ذَلِكَ، وَأَحَبُّوا أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فِي الْمُقَامِ عَلَى إِحْرَامِهِمْ حَتَّى يُكْمِلُوا الْحَجَّ، وَكَانَتْ طَاعَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى لَهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنَ الْإِحْلَالِ كَانَ التَّقْصِيرُ فِي نُفُوسِهِمْ أَخَفَّ مِنَ الْحَلْقِ، فَمَالَ أَكْثَرُهُمْ إِلَيْهِ، وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ بَادَرَ إِلَى الطَّاعَةِ وَحَلَقَ، وَلَمْ يُرَاجِعْ، فَلِذَا قَدَّمَ الْمُحَلِّقِينَ، وَأَخَّرَ الْمُقَصِّرِينَ اهـ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالتَّحَلُّلِ لَا بِخُصُوصِ الْحَلْقِ، وَإِنَّمَا اخْتَارُوا الْقَصْرَ لِقُرْبِ الزَّمَانِ مِنَ الْوُقُوفِ إِبْقَاءً لِلشَّعْرِ لِلْحَلْقِ، أَوِ الْقَصْرِ بَعْدَ الْحَجِّ، وَجَمْعًا بَيْنَ الْعَمَلَيْنِ، وَهُمَا الرُّخْصَةُ، وَالْعَزِيمَةُ، وَالرُّخْصَةُ أَوْلَى بِعْدَ الْعُمْرَةِ، وَأَمَّا الْمُقَصِّرِينَ فِي الْحَجِّ، فَعَمِلُوا بِالرُّخْصَةِ إِبْقَاءً فِي شَعْرِهِمْ لِلزِّينَةِ، بِخِلَافِ الْمُحَلِّقِينَ، فَإِنَّهُمُ اخْتَارُوا الْعَزِيمَةَ فِي الْقَضِيَّةِ، فَاسْتَحَقُّوا الْأَفْضَلِيَّةَ، وَلِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى صِدْقِ النِّيَّةِ، وَحُسْنِ الطَّوِيَّةِ، وَالتَّذَلُّلِ فِي مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ.
وَأَمَّا قَوْلُ النَّوَوِيِّ: وَوَجْهُ أَفْضَلِيَّةِ الْحَلْقِ أَنَّ الْمُقَصِّرَ أَبْقَى عَلَى نَفْسِهِ الزِّينَةَ لِشَعْرِهِ، وَالْحَاجَّ مَأْمُورٌ بِتَرْكِ الزِّينَةِ، فَغَرِيبٌ مِنْهُ، وَكَذَا اسْتِحْسَانُ ابْنِ حَجَرٍ مِنْهُ عَجِيبٌ، فَإِنَّ الْحَاجَّ لَيْسَ مَأْمُورًا بِتَرْكِ الزِّينَةِ بَعْدَ فَرَاغِ الْحَجَّةِ، أَوِ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ لَا يُنَافِي مَا حَكَاهُ عِيَاضٌ، عَنْ بَعْضِهِمْ، أَنَّهُ كَانَ بِالْحُدَيْبِيَةِ حِينَ أَمَرَهُمْ بِالْحَلْقِ، فَلَمْ يَفْعَلُوا طَمَعًا بِدُخُولِ مَكَّةَ يَوْمَئِذٍ، إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُمْ: " «أَمَرَهُمْ بِالْحَلْقِ» " فَغَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالتَّحَلُّلِ، فَاخْتَارَ بَعْضُهُمُ الْحَلْقَ لِأَنَّهُ الْأَفْضَلُ، وَاخْتَارَ آخَرُونَ الْقَصْرَ حَتَّى يُحَلِّقُوا فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ جَمْعًا بَيْنَ الْقَضِيَّتَيْنِ، وَحِيَازَةً لِلْفَضِيلَتَيْنِ.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «حَلَقَ رِجَالُ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَصَّرَ آخَرُونَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُحَلِّقِينَ بِمَا ذَكَرَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ مَا بَالُ الْمُحَلِّقِينَ ظَاهَرْتَ لَهُمْ بِالتَّرَحُّمِ؟ قَالَ: " لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشُكُّوا» ، يَعْنِي لَمْ يَطْمَعُوا فِي دُخُولِ مَكَّةَ، يَوْمَئِذٍ مُسْتَدِلِّينَ " بِقَوْلِهِ - تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: ٢٧] وَقَدْ أَجَابَ الصِّدِّيقُ مِنْ أَرْبَابِ التَّحْقِيقِ عَنْهُ، بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ تَقْيِيدٌ بِهَذِهِ السُّنَّةِ، ثُمَّ نَصَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِهَذَا الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، هَذَا، وَالْمَذْهَبُ الْمَشْهُورُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْحَلْقَ، أَوِ التَّقْصِيرَ نُسُكٌ، إِمَّا وَاجِبٌ، وَإِمَّا رُكْنٌ، لَا يَحْصُلُ التَّحَلُّلُ مِنَ الْحَجِّ، وَالْعُمْرَةِ إِلَّا بِهِ، وَلِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - قَوْلٌ شَاذٌّ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِاسْتِبَاحَةِ مَحْظُورٍ، كَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ، وَالصَّوَابُ هُوَ الْأَوَّلُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute