قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ: بِهَتْكِ حُرْمَتِهَا، وَارْتِكَابِ حَرَامِهَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ حُرْمَةَ الْمُقَاتَلَةِ فِيهَا مَنْسُوخَةٌ، وَأَوَّلُوا الظُّلْمَ بِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي فِيهِنَّ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ وِزْرًا كَارْتِكَابِهَا فِي الْحَرَمِ، وَحَالَ الْإِحْرَامِ. وَعَنْ عَطَاءٍ: لَا يَحِلُّ لِلنَّاسِ أَنْ يَغْزُوا فِي الْحَرَمِ وَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، إِلَّا أَنْ يُقَاتَلُوا، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَاصَرَ الطَّائِفَ، وَغَزَا هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ فِي شَوَّالٍ وَذِي الْقَعْدَةِ (ثَلَاثٌ) : أَيْ: لَيَالِي (مُتَوَالِيَاتٌ) : أَيْ: مُتَتَابِعَاتٌ.
قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: اعْتَبَرَ ابْتِدَاءَ الشُّهُورِ مِنَ اللَّيَالِي، فَحَذَفَ التَّاءَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ تَغْلِيبٌ لِلَّيَالِي هُنَا كَمَا فِي " أَرْبَعَةٌ " تَغْلِيبٌ لِلْأَيَّامِ. (ذُو الْقَعْدَةِ) : بِفَتْحِ الْقَافِ، وَيُكْسَرُ (وَذُو الْحِجَّةِ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَقَدْ يُحْذَفُ مِنْهَا ذُو (وَالْمُحَرَّمُ) : عَطْفٌ عَلَى " ذُو الْقَعْدَةِ " كَانَ الْعَرَبُ يُؤَخِّرُونَ الْمُحَرَّمَ إِلَى صَفَرٍ مَثَلًا، لِيُقَاتِلُوا فِيهِ، وَهُوَ النَّسِيءُ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ، وَهَكَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي كُلِّ سَنَةٍ، فَيَدُورُ الْمُحَرَّمُ فِي جَمِيعِ الشُّهُورِ، فَفِي سَنَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَادَ الْمُحَرَّمُ إِلَى أَصْلِهِ قَبْلُ، فَلِذَلِكَ أَخَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَجَّ إِلَى تِلْكَ السَّنَةِ اهـ.
لَكِنْ يُشْكِلُ حَيْثُ أَمَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْرٍ، وَأَمَرَهُ بِالْحَجِّ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، مَعَ أَنَّ الْحَجَّ لَا يُصْبِحُ فِي غَيْرِ الْحَجَّةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ كَتَبْتُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِسَالَةً مُسْتَقِلَّةً، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَافَقَنِي فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ حَيْثُ قَالَ: وَمِمَّا يَتَعَيَّنُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ الْحَجَّ سَنَةَ ثَمَانٍ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ أَمِيرُ مَكَّةَ، وَسَنَةَ تِسْعٍ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ، إِنَّمَا كَانَتْ فِي الْحِجَّةِ، كَانَ الزَّمَانُ اسْتَدَارَ فِيهِمَا لِاسْتِحَالَةِ أَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنَّاسِ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ الْحِجَّةِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يُنَافِي ذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: " قَدِ اسْتَدَارَ " صَادِقٌ بِهَذِهِ الْحِجَّةِ وَمَا قَبْلَهَا، فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى الْعَامِلِينَ قَبْلَهَا أَيْضًا، كَمَا قَطَعَتْ بِهِ الْقَوَاعِدُ الشَّرْعِيَّةُ. (وَرَجَبُ مُضَرَ) : عَلَى وَزْنِ عُمَرَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ. قَبِيلَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ الْعَرَبِ أُضِيفَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَهُ فَوْقَ مَا يُعَظِّمُونَ غَيْرَهُ مِنَ الْأَشْهُرِ، وَكَانُوا يُعَظِّمُونَهُ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ، وَلَا يُوَافِقُونَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ فِي اسْتِحْلَالِهِ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى " ثَلَاثٌ " وَأَمَّا تَعْرِيفُهُ بِقَوْلِهِ: (الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الدَّالِ وَبَعْدَهُ أَلِفٌ، وَرَسْمُهُ بِالْيَاءِ (وَشَعْبَانَ) : فَلِإِزَاحَةِ الِارْتِيَابِ الْحَادِثِ فِيهِ مِنَ النَّسِيءِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ (وَقَالَ: " أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟) : أَرَادَ بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ أَنْ يُقَرِّرَ فِي نُفُوسِهِمْ حُرْمَةَ الشَّهْرِ، وَالْبَلْدَةِ، وَالْيَوْمِ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ مَا أَرَادَهُ (قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) : رِعَايَةً لِلْأَدَبِ، وَتَحَرُّزًا عَنِ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَوَقُّفًا فِيمَا لَا يُعْلَمُ الْغَرَضُ مِنَ السُّؤَالِ عَنْهُ (فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. فَقَالَ: أَلَيْسَ) : أَيْ: هَذَا الشَّهْرُ أَوِ اسْمُهُ (ذَا الْحِجَّةِ) قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: " أَيُّ بَلَدٍ هَذَا " قُلْنَا: (اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ) : بِلَا فَاءٍ (أَلَيْسَ) : أَيِ: الْبَلَدُ (الْبَلْدَةَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: غَلَبَتِ الْبَلْدَةُ عَلَى مَكَّةَ كَالْبَيْتِ عَلَى الْكَعْبَةِ اهـ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَيِ: الْبَلْدَةَ الَّتِي تَعْلَمُونَهَا مَكَّةَ، وَقِيلَ: هِيَ اسْمُ مَكَّةَ اهـ.
وَالْأَظْهَرُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَلَدِ الْأَرْضُ بِقَرِينَةِ الْإِشَارَةِ بِهَذَا فِي مِنًى، وَالْبَلْدَةُ وَإِنْ كَانَتِ اسْمَ مَكَّةَ لَكِنْ قَدْ تُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا أَرْضُ الْحَرَمِ كُلُّهَا مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْجُزْءِ، وَإِرَادَةِ الْكُلِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} [النمل: ٩١] وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّحْرِيمَ يَعُمُّ مَوَاضِعَ الْحَرَمِ كُلَّهَا (وَقُلْنَا: بَلَى. قَالَ: " فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ " قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ: " أَلَيْسَ) : أَيْ: هَذَا الْيَوْمُ (يَوْمَ النَّحْرِ؟) قُلْنَا: (بَلَى) : وَلَعَلَّ فَائِدَةَ السُّؤَالِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ مَعَ تَكَرُّرِ الْحَالِ ; لِيَكُونَ أَوْقَعَ فِي الْقَلْبِ، وَأَحْفَظَ فِي النَّفْسِ (قَالَ: " فَإِنَّ دِمَائَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ) : أَيْ: تَعَرُّضَكُمْ لِبَعْضِكُمْ فِي دِمَائِكُمْ، وَأَمْوَالِكُمْ، وَأَعْرَاضِكُمْ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute