أَحَدٌ لَيْسَ لَهُ نَعْلَانِ فَيَلْبَسُ الْخُفَّيْنِ، فَلْيَقْطَعْ أَسْفَلَ مِنَ (الْكَعْبَيْنِ وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلَا وَرْسٌ» ) . زَادُوا إِلَّا مُسْلِمًا وَابْنَ مَاجَهْ: " «وَلَا تَنْتَقِبِ " الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ، وَلَا تَلْبَسِ الْقُفَّازَيْنِ» قِيلَ: قَوْلُهُ: وَلَا تَنْتَقِبِ الْمَرْأَةُ إِلَى آخِرِهِ مُدْرَجٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، وَدُفِعَ بِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَكَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى الِاخْتِلَافِ فِي وَقْفِهِ وَرَفْعِهِ، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ مَوْقُوفًا، لَكِنَّهُ غَيْرُ قَادِحٍ، إِذْ قَدْ يُفْتِي الرَّاوِي بِمَا يَرْوِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْنِدَهُ أَحْيَانًا، مَعَ أَنَّ هُنَا قَرِينَةً عَلَى الرَّفْعِ، وَهِيَ أَنَّهُ وَرَدَ إِفْرَادُ النَّهْيِ عَنِ النِّقَابِ مِنْ رِوَايَةِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الْمُحْرِمَةُ لَا تَنْتَقِبُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ» ". وَلِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ النَّهْيُ عَنْهُمَا فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ. أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ كَمَا سَيَأْتِي فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْحِكْمَةُ فِي تَحْرِيمِ اللِّبَاسِ الْمَذْكُورِ وَإِبَاحَةِ الْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ ; هِيَ أَنْ يَبْعُدَ عَنِ التَّرَفُّهِ وَيَتَّصِفَ بِصِفَةِ الْخَاشِعِ الذَّلِيلِ، وَلِيَكُونَ عَلَى ذِكْرِهِ دَائِمًا أَنَّهُ مُحَرِمٌ، فَيُكْثِرُ الدُّعَاءَ، وَلَا يَفْتُرُ عَنِ الْأَذْكَارِ، وَيَصُونُ نَفْسَهَ عَنِ ارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ، وَلِيَتَذَكَّرْ بِهِ الْمَوْتَ وَلُبْسَ الْأَكْفَاءِ، وَالْبَعْثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ، وَالْحِكْمَةُ فِي تَحْرِيمِ الطِّيبِ وَالنِّسَاءِ أَنْ يَبْعُدَ عَنِ التَّنَعُّمِ وَزِينَةِ الدُّنْيَا وَمَلَاذِّهَا، إِذِ الْحَاجُّ أَشْعَثُ أَغْبَرُ، وَأَنْ يَجْمَعَ هَمَّهُ لِمَقَاصِدِ الْآخِرَةِ، وَالْحِكْمَةُ فِي تَحْرِيمِ الصَّيْدِ تَعْظِيمُ بَيْتِ اللَّهِ وَحُرْمَةُ مَنْ قَتَلَ صَيْدَهَ وَقَطَعَ شَجَرَهُ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَنَحْوِهِ قَالَ أَحْمَدُ: يَجُوزُ لُبْسُ الْخُفَّيْنِ بِحَالِهِمَا، وَلَا يَجِبُ قَطْعُهُمَا إِذَا لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَزْعُمُونَ نَسْخَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُصَرِّحِ بِقَطْعِهِمَا، وَزَعَمُوا إِلَى قَطْعِهِمَا إِضَاعَةَ مَالٍ، وَقَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ: لَا يَجُوزُ لُبْسُهُمَا إِلَّا بَعْدَ قَطْعِهِمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مُقَيَّدٌ، وَالْمُطْلَقُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَالزِّيَادَةُ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ. وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ إِضَاعَةُ مَالٍ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الْإِضَاعَةَ إِنَّمَا تَكُونُ فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ، وَأَمَّا مَا أُمِرَ بِهِ فَلَيْسَ بِإِضَاعَةٍ، بَلْ حَقٌّ يَجِبُ الْإِذْعَانُ لَهُ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي لَابِسِ الْخُفَّيْنِ لِعَدَمِ النَّعْلَيْنِ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَمَنْ وَافَقَهُمَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ بِهِ فِيهِ لِبَيَّنَهَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ كَمَا إِذَا احْتَاجَ إِلَى حَلْقِ الرَّأْسِ فَيَحْلِقُهُ وَيَفْدِي، وَقَدْ سَبَقَ مَا فِيهِ مِنَ التَّحْقِيقِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ. ثُمَّ نَحْوَ الْهَوْدَجِ إِنْ مَسَّ الرَّأْسَ فَمَحْظُورٌ وَإِلَّا فَلَا. وَكَذَا أَسْتَارُ الْكَعْبَةِ وَسَقْفُ الْخَيْمَةِ.
وَأَمَّا مَا جَاءَ عَنْ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مَا ضَرَبَ فُسْطَاطًا فِي سَفَرِ حَجِّهِ، وَعَنِ ابْنِهِ أَنَّهُ أَمَرَ مَنِ اسْتَظَلَّ عَلَى بَعِيرٍ بِأَنْ يَبْرُزَ لِلشَّمْسِ، وَعَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: " «مَا مِنْ مُحْرِمٍ يَضْحَى لِلشَّمْسِ حَتَّى تَغْرُبَ إِلَّا غَرَبَتْ بِذُنُوبِهِ حَتَّى يَعُودَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» "، فَلَا مُتَمَسِّكَ فِي ذَلِكَ لِمَنْعِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ الِاسْتِظْلَالَ، لِلْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ جُلُوسِهِ فِي خَيْمَةٍ وَتَحْتَ سَقْفٍ، وَلِأَنَّ مَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ لَا نَهْيَ فِيهِ، أَوْ مَذْهَبُ صَحَابِيٍّ، وَالْخَبَرُ ضَعِيفٌ مَعَ أَنَّهُ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: عَلَى أَنَّ خَبَرَ مُسْلِمٍ مُقَدَّمٌ عَلَى كُلِّ مَا خَالَفَهُ، وَهُوَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سُتِرَ بِثَوْبٍ مِنَ الْحَرِّ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» ، فَفِيهِ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ صَرَاحَةً أَنَّهُ كَانَ حَالَ إِحْرَامِهِ، وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute