أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ، وَالظُّلْمُ هُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ غَيْرَ مَوْضِعِهِ. (لَا يُقْبَلُ مِنْهُ) : أَيْ قَبُولًا كَامِلًا (صَرْفٌ) : أَيْ فَرْضٌ أَوْ نَافِلَةٌ أَوْ تَوْبَةٌ أَوْ شَفَاعَةٌ (وَلَا عَدْلٌ) ، أَيْ نَافِلَةٌ أَوْ فَرْضَةٌ أَوْ فِدْيَةٌ، لِأَنَّهَا تُعَادِلُ الْمُفْدَى، وَقِيلَ: شَفَاعَةٌ، وَقِيلَ: تَوْبَةٌ (ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ) : أَيْ: عَهْدُهُمْ وَأَمَانُهُمْ (وَاحِدَةٌ) : أَيْ: إِنَّهَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَرَاتِبِ، وَلَا الْعَاقِدِ بِهَا، وَكَانَ الَّذِي يَنْقُضُ ذِمَّةَ أَخِيهِ كَالَّذِي يَنْقُضُ ذِمَّةَ نَفْسِهِ، وَهِيَ مَا يُذَمُّ الرَّجُلُ عَلَى إِذَاعَتِهِ مِنْ عَهْدٍ وَأَمَانٍ، كَأَنَّهُمْ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ الَّذِي إِذَا اشْتَكِي بَعْضُهُ اشْتَكِي كُلُّهُ. (يَسْعَى بِهَا) : أَيْ: يَتَوَلَّاهَا وَيَلِي أَمْرَهَا (أَدْنَاهُمْ) أَيْ أَدْنَى الْمُسْلِمِينَ مَرْتَبَةً، وَالْمَعْنَى أَنَّ ذِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ سَوَاءٌ صَدَرَتْ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ شَرِيفٍ أَوْ وَضِيعٍ.
قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِذَا أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ آوَى كَافِرًا لَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ نَقْضُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُؤْوَى عَبْدًا، وَأَمَّا إِمَامُنَا الْأَعْظَمُ فَلَمْ يَعْتَبِرْ أَمَانَ الْعَبْدِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فَمَحَلُّهُ الْأَهَمُّ. (فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا) : بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ نَقَضَ عَهْدَهُ وَأَمَانَهُ لِلْكَافِرِ، بِأَنْ قَتَلَ ذَلِكَ الْكَافِرَ أَوْ أَخَذَ مَالَهُ، وَحَقِيقَتُهُ إِزَالَةُ خَفْرَتِهِ أَيْ: عَهْدِهِ وَأَمَانِهِ (فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ) : أَيِ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ، أَوْ كُلِّهِمْ أَجْمَعِينَ لِكَرَاهَتِهِمُ الْعَاصِينَ (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) : وَكَذَا عَلَى مَنِ اقْتَدَى بِهِ أَوْ رَضِيَ بِفِعْلِهِ، فَتَكُونُ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى، (لَا يُقْبَلُ مِنْهُ) : أَيْ مِنَ الْمُخْفِرِ (صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ) : كَمَا تَقَدَّمَ (وَمَنْ وَالَى قَوْمًا) : بِأَنْ يَقُولَ مُعْتَقٌ لِغَيْرِ مُعْتِقِهِ: أَنْتَ مَوْلَايَ (بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ) ، لَيْسَ لِتَقْيِيدِ الْحُكْمِ بِعَدَمِ الْإِذْنِ وَقَصْرِهِ عَلَيْهِ، بَلْ بُنِيَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى الْغَالِبِ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا اسْتَأْذَنَ مَوَالِيَهُ لَمْ يَأْذَنُوا لَهُ.
قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قِيلَ: أَرَادَ بِهِ وَلَاءَ الْمُوَلَّاةِ لَا وَلَاءَ الْعِتْقِ، كَمَنِ انْتَسَبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْمَانِعِ، وَهُوَ إِبْطَالُ حَقِّهِمْ وَأَمَانَتِهِمْ، وَإِيرَادُ الْكَلَامِ عَلَى مَا هُوَ الْغَالِبُ لَا تَقْيِيدَ حَتَّى يَجُوزَ الِانْتِسَابُ بِالْإِذْنِ. (فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ فِيهِ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) هُوَ يُفِيدُ أَنَّ عَلِيًّا مَا كَتَبَ شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يَأْمُرُ بِالْأَمْرِ فَيُؤْتَى، فَيُقَالُ: قَدْ فَعَلْنَا كَذَا وَكَذَا. فَيَقُولُ صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْأَشْتَرُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي تَقُولُ تَفَشَّغَ فِي النَّاسِ، أَهُوَ شَيْءٌ عَهَدَهُ إِلَيْكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: مَا عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَ النَّاسِ إِلَّا شَيْئًا جَمَعْتُهُ مِنْهُ فَهُوَ فِي صَحِيفَةٍ فِي قِرَابِ سَيْفِي. قَالَ: فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَخْرَجَ الصَّحِيفَةَ، فَإِذَا فِيهَا: " «مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا» ": الْحَدِيثَ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا تَصْرِيحٌ مِنْ عَلِيٍ بِإِبْطَالِ مَا يَزْعُمُهُ الشِّيعَةُ وَيَفْتَرُونَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ عَلِيًّا أَوْصَى إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْخِلَافَةِ وَأَسْرَارٍ أُخَرَ، وَخَصَّ أَهْلَ الْبَيْتِ بِمَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ، فَهَذِهِ دَعَاوِي بَاطِلَةٌ وَاخْتِرَاعَاتٌ فَاسِدَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا، وَيَكْفِي فِي إِبْطَالِهِ قَوْلُ عَلِيٍّ هَذَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ كِتَابَةِ الْعِلْمِ، وَمَعْنَى تَفَشَّغَ بِالْفَاءِ وَالشِّينِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَتَيْنِ ; أَيْ: ظَهَرَ وَانْتَشَرَ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ.
(وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: " مَنِ ادَّعَى) : أَيِ انْتَسَبَ (إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ) ، أَيِ: الْمَعْرُوفِ (أَوْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ) : هَذَا الْعَطْفُ يُؤَيِّدُ مَنْ فَسَّرَ الْمُوَالَاةَ بِوَلَاءِ الْعِتَاقَةِ (فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ) جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِالْوَعِيدِ، فَإِنَّ الْعِتْقَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لِحْمَةٌ كَلِحْمَةِ النَّسَبِ، فَإِذَا نُسِبَ إِلَى غَيْرِ مَنْ هُوَ لَهُ كَانَ كَالدَّعِيِّ الَّذِي يَتَبَرَّأُ عَمَّنْ هُوَ مِنْهُ، وَأَلْحَقَ نَفْسَهُ بِغَيْرِهِ، فَيَسْتَحِقُّ بِهِ الدُّعَاءَ عَلَيْهِ بِالطَّرْدِ وَالْإِبْعَادِ عَنِ الرَّحْمَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute