(عِضَاهُهَا) : جَمْعُ عِضَةٍ بِحَذْفِ الْهَاءِ الْأَصْلِيَّةِ، كَمَا فِي شَفَةٍ، وَهِيَ كُلُّ شَجَرٍ عَظِيمٍ لَهُ شَوْكٌ (أَوْ يُقْتَلَ صَيْدُهَا) : حَمَلَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى النَّهْيِ التَّنْزِيهِيِّ كَمَا سَيَجِيءُ (وَقَالَ: " الْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ) : أَيْ لِأَهْلِهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى، وَذَلِكَ مُطْلَقٌ إِنْ كَانَ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَمُقَيَّدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِنْ كَانَ بَعْدَهُ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْخَيْرِيَّةِ مِنْ جِهَةِ بَرَكَةِ الْمَعِيشَةِ، فَلَا يُنَافِي بَرَكَةَ الْفَضِيلَةِ الزَّائِدَةِ الثَّابِتَةِ لِمَكَّةَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ، (وَلَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) : أَيْ: مَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ لَمَا فَارَقُوهَا وَمَا اخْتَارُوا غَيْرَهَا عَلَيْهَا، وَمَا تَجَوَّلُوا لِلتَّوْسِعَةِ فِي الدُّنْيَا. (لَا يَدَعُهَا) اسْتِئْنَافٌ مُبِيِّنٌ، أَيْ لَا يَتْرُكُهَا (أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْهَا) : إِعْرَاضًا، احْتِرَازًا مِنْ تَرْكِهَا ضَرُورَةً (إِلَّا أَبْدَلَ اللَّهُ فِيهَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ) ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَضُرُّ الْمَدِينَةَ عَدَمُهُ، بَلْ يَنْفَعُهَا فَقْدُهُ، وَذَهَبَ إِلَى غَيْرِهَا شَرُّهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: ٣٨] قِيلَ: هَذَا الْإِبْدَالُ فِي زَمَنِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُطْلَقٌ وَشَامِلٌ لِجَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْأَيَّامِ (وَلَا يَثْبُتُ أَحَدٌ) : أَيْ: بِالصَّبْرِ (عَلَى لَأْوَائِهَا) : بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ الْأُولَى وَيُبَدَّلُ أَيْ: شِدَّةِ جُوعِهَا (وَجُهْدِهَا) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَضَمِّهَا أَيْ: مَشَقَّتِهَا مِمَّا يَجِدُ فِيهِ مِنْ شِدَّةَ الْحَرِّ وَكُرْبَةِ الْغُرْبَةِ وَأَذِيَّةِ مَنْ فِيهَا مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: اللَّأْوَاءُ: الشِّدَّةُ ; لَكِنَّ الْمُرَادَ هُنَا ضِيقُ الْمَعِيشَةِ وَالْقَحْطُ لِمَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا، فَلَا بُدَّ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي مَعْنَاهَا وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ تَفْسِيرِيًّا وَتَأْكِيدًا لِأَنَّ التَّأْسِيسَ أَوْلَى، وَالْأَصْلُ فِي الْعَطْفِ التَّغَايُرُ. (إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا) : قِيلَ: أَوْ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا، لِأَنَّ كَثِيرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ رَوَوْهُ كَذَلِكَ، وَيَبْعُدُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى الشَّكِّ، وَقِيلَ: تَقْسِيمٌ أَيْ: شَفِيعًا لِلْعَاصِي شَهِيدًا لِلْمُطِيعِ، أَوْ شَهِيدًا لِمَنْ مَاتَ فِي زَمَانِهِ شَفِيعًا لِمَنْ مَاتَ بَعْدَهُ، وَقِيلَ: " أَوْ " بِمَعْنَى الْوَاوِ. (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى بِشَارَةِ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ.
قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهَذِهِ خُصُوصِيَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الشَّفَاعَةِ لِلْمُذْنِبِينَ عَامَّةً، وَعَلَى شَهَادَتِهِ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ " «أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ» "، فَيَكُونُ تَخْصِيصُهُمْ بِذَلِكَ مَزِيَّةَ مَرْتَبَةٍ وَرِفْعَةَ مَنْزِلَةٍ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَفِيهِ تَنْبِيهٌ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ صَابِرًا، بَلْ شَاكِرًا عَلَى إِقَامَتِهِ فِي الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى مَا فِيمَا عَدَاهُمَا مِنَ النِّعَمِ الصُّورِيَّةِ ; لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِالنِّعَمِ الْحَقِيقِيَّةِ الْأُخْرَوِيَّةِ لِحَدِيثِ: " «اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ» ". وَلِحَدِيثِ: " «مَنْ صَبَرَ عَلَى حَرِّ مَكَّةَ سَاعَةً تَبَاعَدَ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ مِائَتَيْ سَنَةٍ» ". وَنِعْمَ مَا قَالَ:
إِذَا لَمْ يَطِبْ فِي طِيبِهِ عِنْدَ طَيِّبٍ
تَطِيبُ بِهِ الدُّنْيَا فَأَيْنَ تَطِيبُ
وَقَدْ قَالَ عَزَّ وَعَلَا: {أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: ٦٧] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ - الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: ٣ - ٤] وَأَصْلُ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ فِي وُصُولِ الرِّزْقِ وَحُصُولِ الْأَمْنِ الَّذِي بِهِ كَمَالُ الرِّفْقِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute