الْبُرْدَةَ قَالَ: يَا فُلَانُ إِنَّا لَمْ نَرِدِ الْبَالُوعَةَ، فَخَجِلَ الشَّاعِرُ وَبَهَتَ الْفَاجِرُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَصْلُ الْأَكْلِ لِلشَّيْءِ الْإِفْنَاءُ لَهُ ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِافْتِتَاحِ الْبِلَادِ وَسَلْبِ الْأَمْوَالِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ يَأْكُلُ أَهْلُهَا الْقُرَى، أَوْ أَضَافَ الْأَكْلَ إِلَيْهَا لِأَنَّ أَمْوَالَ تِلْكَ الْبِلَادِ تُجْمَعُ إِلَيْهَا وَتُفْنَى فِيهَا (يَقُولُونَ) أَيِ النَّاسُ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى لَهَا (يَثْرِبَ) أَوْ هِيَ يَثْرِبُ (وَهِيَ الْمَدِينَةُ) أَيْ يُسَمُّونَهَا هَذَا الِاسْمَ وَالِاسْمُ الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ هُوَ الْمَدِينَةُ لِدَلَالَتِهَا عَلَى التَّعْظِيمِ، وَأَمَّا التَّثْرِيبُ فَهُوَ اللَّوْمُ وَالتَّوْبِيخُ قَالَ - تَعَالَى - حِكَايَةً {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف: ٩٢] (تَنْفِي النَّاسَ) أَيِ الْخَبِيثِينَ (كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ) قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ يَثْرِبُ مِنْ أَسْمَاءِ الْمُدُنِ، وَقِيلَ هُوَ اسْمُ أَرْضِهَا سُمِّيَتْ بِاسْمِ رَجُلٍ مِنَ الْعَمَالِقَةِ كَانَ أَوَّلَ مَنْ نَزَلَهَا وَبِهِ كَانَتْ تُسَمَّى قَبْلَ الِاسْمِ، فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ غَيَّرَ هَذَا الِاسْمَ فَقَالَ بَلْ هِيَ طَابَةُ، وَجَعَلَ الْمَدِينَةَ مَكَانَهَا وَكَأَنَّهُ كَرِهَ هَذَا الِاسْمَ لِمَا يَئُولُ إِلَيْهِ مِنَ التَّثْرِيبِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ أَيْ مِنْ أَنَّهُ اسْمُ رَجُلٍ مِنَ الْعَمَالِقَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ يَقُولُونَ يَثْرِبَ وَهِيَ الْمَدِينَةُ ; أَيِ الِاسْمُ الْحَقِيقِيُّ بِأَنْ تُدْعَى بِهِ هِيَ الْمَدِينَةُ فَإِنَّهَا يَلِيقُ بِأَنْ تُتَّخَذَ دَارَ إِقَامَةٍ مِنْ مُدُنٍ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ، تَنْفِي النَّاسَ أَيْ شِرَارَهُمْ وَهَمَجَهُمْ، يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّشْبِيهُ بِالْكِيرِ فَإِنَّهُ يَنْفِي خَبَثَ الْحَدِيدِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالْبَاءِ وَبِالْمُثَلَّثَةِ رَدِيئَهُ، ثُمَّ كُورُ الْحَدَّادِ بِضَمِّ الْكَافِ تَوَقُّدُ النَّارِ مِنَ الطِّينِ وَالْكِيرُ زِقُّهُ الَّذِي يُنْفُخُ فِيهِ، وَالْمُرَادُ مَا بُنِيَ مِنَ الطِّينِ اهـ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَدْ حُكِيَ عَنْ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ: أَنَّ مَنْ سَمَّاهَا يَثْرِبَ كُتِبَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ، وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا فِي الْقُرْآنِ بِيَثْرِبَ فَهِيَ حِكَايَةُ قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ تَحْرِيمُ تَسْمِيَةِ الْمَدِينَةِ بِيَثْرِبَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ الْبَرَاءِ مَرْفُوعًا: «مَنْ سَمَّى الْمَدِينَةَ يَثْرِبَ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، هِيَ طَابَةُ هِيَ طَابَةُ» قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ يُحَقِّرُ شَأْنَ مَا عَظَّمَهُ اللَّهُ وَمَنْ وَصَفَ مَا سَمَّاهُ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ ; يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسَمَّى عَاصِيًا، بَلْ هُوَ كَافِرٌ وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَقَالَ فِي الْفَائِقِ: أُسْنِدَ تَسْمِيَتُهَا بِيَثْرِبَ إِلَى النَّاسِ تَحَاشِيًا عَنْ مَعْنَى التَّثْرِيبِ، وَكَانَ يُسَمِّيهَا طَابَةَ وَطِيبَةَ وَيَقُولُونَ صِفَةً لِلْقَرْيَةِ وَالرَّاجِعُ مِنْهَا إِلَيْهَا مَحْذُوفٌ، وَالْأَصْلُ يَقُولُونَ لَهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute