قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَبْرَزَ ضَمِيرَهُمْ زِيَادَةً فِي تَقْبِيحِ صَنِيعِهِمْ وَبَيَانًا لِكَوْنِ ذَلِكَ دَأْبَهُمْ وَعَادَتَهُمُ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ أُبْرِزَ حَتَّى لَا يَرْجِعَ الضَّمِيرُ إِلَى غَيْرِهِمْ (تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً) : سَمَّى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَرِيقَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِلَّةً اتِّسَاعًا وَهِيَ فِي الْأَصْلِ مَا شَرَعَ اللَّهُ لِعِبَادِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ لِيَتَوَصَّلُوا بِهِ إِلَى الْقُرْبِ مِنْ حَضْرَتِهِ تَعَالَى، وَيُسْتَعْمَلُ فِي جُمْلَةِ الشَّرَائِعِ دُونَ آحَادِهَا وَلَا تَكَادُ تُوجَدُ مُضَافَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَا إِلَى آحَادِ أُمَّةِ النَّبِيِّ، بَلْ يُقَالُ: مِلَّةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ مِلَّتُهُمْ، كَذَا ثُمَّ إِنَّهَا اتَّسَعَتْ فَاسْتُعْمِلَتْ فِي الْمِلَلِ الْبَاطِلَةِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَظُمَ تَفَرُّقُهُمْ وَتَدَيَّنَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ بِخِلَافِ مَا تَتَدَيَّنُ بِهِ غَيْرُهَا كَانَتْ طَرِيقَةُ كُلٍّ مِنْهُمْ كَالْمِلَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي التَّدَيُّنِ فَسُمِّيَتْ بِاسْمِهَا مَجَازًا، وَقِيلَ: الْمِلَّةُ كُلُّ فِعْلٍ وَقَوْلٍ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ وَهُوَ قَدْ يَكُونُ حَقًّا وَقَدْ يَكُونُ بَاطِلًا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَفْتَرِقُونَ فِرَقًا تَتَدَيَّنُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا بِخِلَافِ مَا تَتَدَيَّنُ بِهِ الْأُخْرَى (وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً) ، قِيلَ: فِيهِ إِشَارَةٌ لِتِلْكَ الْمُطَابَقَةِ مَعَ زِيَادَةِ هَؤُلَاءِ فِي ارْتِكَابِ الْبِدَعِ بِدَرَجَةٍ، ثُمَّ قِيلَ: يَحْتَمِلُ أُمَّةَ الدَّعْوَةِ فَيَنْدَرِجُ سَائِرُ الْمِلَلِ الَّذِينَ لَيْسُوا عَلَى قِبْلَتِنَا فِي عَدَدِ الثَّلَاثِ وَالسَّبْعِينَ، وَيَحْتَمِلُ أُمَّةَ الْإِجَابَةِ فَيَكُونُ الْمِلَلُ الثَّلَاثُ وَالسَّبْعُونَ مُنْحَصِرَةً فِي أَهْلِ قِبْلَتِنَا، وَالثَّانِي هُوَ الْأَظْهَرُ، وَنَقَلَ الْأَبْهَرِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُمَّةِ أُمَّةُ الْإِجَابَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ (كُلُّهُمْ فِي النَّارِ) : لِأَنَّهُمْ يَتَعَرَّضُونَ لِمَا يُدْخِلُهُمُ النَّارَ فَكُفَّارُهُمْ مُرْتَكِبُونَ مَا هُوَ سَبَبٌ فِي دُخُولِهَا الْمُؤَبَّدَةِ عَلَيْهِمْ وَمُبْتَدِعَتُهُمْ مُسْتَحِقَّةٌ لِدُخُولِهَا إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُمْ (إِلَّا مِلَّةً) : بِالنَّصْبِ أَيْ إِلَّا أَهْلَ مِلَّةٍ (وَاحِدَةً) قَالُوا: مَنْ هِيَ؟) ، أَيْ: تِلْكَ الْمِلَّةُ، أَيْ أَهْلُهَا، النَّاجِيَةُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي) .، أَيْ: هِيَ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي، قِيلَ: جَعَلَهَا عَيْنَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مُبَالَغَةً فِي مَدْحِهَا وَبَيَانًا لِبَاهِرِ اتِّبَاعِهَا حَتَّى يُخَيَّلَ إِنَّهَا عَيْنُ ذَلِكَ الْمُتَّبَعِ، أَوِ الْمُرَادُ بِـ (مَا) الْوَصْفِيَّةُ عَلَى حَدِّ {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: ٧] ، أَيِ: الْقَادِرُ الْعَظِيمُ الشَّأْنِ سَوَّاهَا، فَكَذَا هُنَا الْمُرَادُ هُمُ الْمُهْتَدُونَ الْمُتَمَسِّكُونَ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي، فَلَا شَكَّ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ أَهْلُهَا مَنْ كَانَ عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي مِنَ الِاعْتِقَادِ وَالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُعْرَفُ بِالْإِجْمَاعِ، فَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ فَهُوَ حَقٌّ وَمَا عَدَاهُ بَاطِلٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ أُصُولَ الْبِدَعِ كَمَا نُقِلَ فِي الْمَوَاقِفِ ثَمَانِيَةٌ: الْمُعْتَزِلَةُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْعِبَادَ خَالِقُو أَعْمَالِهِمْ وَبِنَفْيِ الرُّؤْيَةِ وَبِوُجُوبِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَهُمْ عِشْرُونَ فِرْقَةً، وَالشِّيعَةُ الْمُفْرِطُونَ فِي مَحَبَّةِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، وَهُمُ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ فِرْقَةً، وَالْخَوَارِجُ الْمُفْرِطَةُ الْمُكَفِّرَةُ لَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَنْ أَذْنَبَ كَبِيرَةً وَهُمْ عِشْرُونَ فِرْقَةً، وَالْمُرْجِئَةُ الْقَائِلَةُ بِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ مَعْصِيَةٌ، كَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الْكُفْرِ طَاعَةٌ، وَهِيَ خَمْسُ فِرَقٍ، وَالنَّجَّارِيَّةُ الْمُوَافِقَةُ لِأَهْلِ السُّنَّةِ فِي خَلْقِ الْأَفْعَالِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ وَحُدُوثِ الْكَلَامِ، وَهُمْ ثَلَاثُ فِرَقٍ، وَالْجَبْرِيَّةُ الْقَائِلَةُ بِسَلْبِ الِاخْتِيَارِ عَنِ الْعِبَادِ فِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْمُشَبِّهَةُ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ الْحَقَّ بِالْخَلْقِ فِي الْجِسْمِيَّةِ وَالْحُلُولِ فِرْقَةٌ أَيْضًا فَتِلْكَ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ فِرْقَةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ، وَالْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ الْبَيْضَاءِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَالطَّرِيقَةِ النَّقِيَّةِ الْأَحْمَدِيَّةِ، وَلَهَا ظَاهِرٌ سُمِّيَ بِالشَّرِيعَةِ شِرْعَةً لِلْعَامَّةِ، وَبَاطِنٌ سُمِّيَ بِالطَّرِيقَةِ مِنْهَاجًا لِلْخَاصَّةِ وَخُلَاصَةٌ خُصَّتْ بِاسْمِ الْحَقِيقَةِ مِعْرَاجًا لِأَخَصِّ الْخَاصَّةِ، فَالْأَوَّلُ نَصِيبُ الْأَبْدَانِ مِنَ الْخِدْمَةِ، وَالثَّانِي نَصِيبُ الْقُلُوبِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ: وَالثَّالِثُ نَصِيبُ الْأَرْوَاحِ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ وَالرُّؤْيَةِ.
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَالشَّرِيعَةُ أَمْرٌ بِالْتِزَامِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْحَقِيقَةُ مُشَاهَدَةُ الرُّبُوبِيَّةِ فَكُلُّ شَرِيعَةٍ غَيْرُ مُؤَيَّدَةٍ بِالْحَقِيقَةِ فَغَيْرُ مَقْبُولٍ، وَكُلُّ حَقِيقَةٍ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِالشَّرِيعَةِ فَغَيْرُ مَحْصُولٍ. فَالشَّرِيعَةُ قِيَامٌ بِمَا أُمِرَ وَالْحَقِيقَةُ شُهُودٌ لِمَا قُضِيَ وَقُدِّرَ وَأُخْفِيَ وَأُظْهِرَ، وَالشَّرِيعَةُ حَقِيقَةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا وَجَبَتْ بِأَمْرِهِ، وَالْحَقِيقَةُ شَرِيعَةٌ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمَعَارِفَ بِهِ سُبْحَانَهُ وَجَبَتْ بِأَمْرِهِ، وَلِلَّهِ دَرُّ مَنْ قَالَ مِنْ أَرْبَابِ الْحَالِ:
أَلَا فَالْزَمُوا سُنَّةَ الْأَنْبِيَاءِ ... أَلَا فَاحْفَظُوا سِيرَةَ الْأَصْفِيَاءِ
وَمَنْ يَبْتَدِعْ بِدْعَةً لَمْ يُكَرَّمْ ... بِوِجْدَانِهِ رُتْبَةَ الْأَتْقِيَاءِ
(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . أَيْ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو كَذَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute