فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ سَوَّيْتَ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ وَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ يَقْتَضِي الْحَصْرَ عُرْفًا، وَمَا أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ لَا يَقْتَضِيهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةَ حَالٍ وَاقِعَةٍ، وَقَضَاءً فِي قَضِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ؟ قُلْتُ: كَفَى لِدَفْعِ هَذَا الِاحْتِمَالِ مَا ذُكِرَ عَقِيبَهُ، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ بِحَرْفِ التَّعْقِيبِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْحَدِيثِ، بَلْ شَيْءٌ زَادَهُ الرَّاوِي فَأَوْصَلَهُ بِمَا حَكَاهُ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ تَلْبِيسًا وَتَدْلِيسًا، وَمَنْصِبُ هَذَا الرَّاوِي وَالْأَئِمَّةِ الَّذِينَ دَوَّنُوهُ وَسَاقُوا الرِّوَايَةَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ إِلَيْهِ أَعْلَى مِنْ أَنْ يُتَصَوَّرَ فِي شَأْنِهِمْ أَمْثَالُ ذَلِكَ، وَالْحَدِيثُ كَمَا تَرَى يَدُلُّ بِمَنْطُوقِهِ صَرِيحًا عَلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ فِي مُشْتَرَكٍ مُشَاعٍ، لَمْ يُقَسَّمْ بَعْدُ فَإِذَا قُسِّمَ وَتَمَيَّزَتِ الْحُقُوقُ لَمْ يَبْقَ لِلشُّفْعَةِ مَجَالٌ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ دُونَ الْجَارِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، كَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَرَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنَ التَّابِعِينَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، وَقَوْمٍ نَزْرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بِعْدَهُمْ مَالُوا إِلَى ثُبُوتِهَا لِلْجَارِ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ: " «الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ» ".
قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: " لَمَّا لَمْ يَجِدْ بَيْنَهُمَا مَزِيدَ تَفَاوُتٍ فِي الْمَعْنَى إِلَخْ، لَا يَرْفَعُ الْإِنْكَارَ لِأَنَّ أَهْلَ هَذِهِ الصَّنْعَةِ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَوْ مُسْلِمٌ مَثَلًا جَازَ لَهُ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى، وَأَمَّا إِذَا قَالَ: فِي كِتَابِ فُلَانٍ كَذَا كَذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ صَرِيحِ لَفْظِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي خُطْبَةِ الْمَصَابِيحِ. وَأَعْنِي بِالصِّحَاحِ مَا أَوْرَدَهُ الشَّيْخَانِ فِي جَامِعَيْهِمَا أَوْ أَحَدِهِمَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: كَفَى لِدَفْعِ هَذَا الِاحْتِمَالِ إِلَخْ، فَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ الْحَصْرَ هَاهُنَا لَيْسَ بِالْأَدَاةِ وَالتَّقْدِيمِ وَتَعْرِيفِ الْخَبَرِ، بَلْ بِحَسَبِ الْمَفْهُومِ، وَقَوْلُهُ: الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقَسَّمْ مَفْهُومُهُ لَا شُفْعَةَ فِيمَا قُسِّمَ، فَيَكُونُ مَا بَعْدَهُ بَيَانًا لَهُ وَتَقْرِيرًا، وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقَسَّمْ لَمْ يَقْضِ فِيمَا قُسِّمَ، فَبَيْنَهُمَا بَوْنٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute