للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

١٩٣ - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَنْ كَانَ مُسْتَنًّا ; فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا أَفْضَلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، أَبَرَّهَا قُلُوبًا وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا، وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ، وَلِإِقَامَةِ دِينِهِ، فَاعْرِفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ، وَاتَّبِعُوهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ، وَتَمَسَّكُوا بِمَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ وَسِيَرِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهَدْيِ الْمُسْتَقِيمِ. رَوَاهُ رَزِينٌ.

ــ

١٩٣ - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَنْ كَانَ مُسْتَنًّا) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ أَيْ: مُقْتَدِيًا بِسُنَّةِ أَحَدٍ وَطَرِيقَتِهِ (فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ) أَيْ: عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَعَلِمَ حَالَهُ وَكَمَالَهُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِقَامَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أُخْرِجَ الْكَلَامُ مَخْرَجَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ تَنْبِيهًا بِهِ عَلَى الِاجْتِهَادِ وَتَحَرِّي طَرِيقِ الصَّوَابِ بِنَفْسِهِ بِالِاسْتِنْبَاطِ مِنْ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ فَلْيَقْتَدِ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُمْ نُجُومُ الْهُدَى وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُوصِي الْقُرُونَ الْآتِيَةَ بَعْدَ قُرُونِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بِاقْتِفَاءِ أَثَرِهِمْ وَالِاهْتِدَاءِ بِسِيَرِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ اهـ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُوصِي التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ تَبَعٌ لَهُمْ بِالِاقْتِدَاءِ بِالصَّحَابَةِ، لَكِنْ خَصَّ أَمْوَاتَهُمْ لِأَنَّهُ عَلِمَ اسْتِقَامَتَهُمْ عَلَى الدِّينِ وَاسْتِدَامَتَهُمْ عَلَى الْيَقِينِ بِخِلَافِ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ حَيًّا فَإِنَّهُ يُمْكِنُ مِنْهُمُ الِافْتِتَانُ وَوُقُوعُ الْمَعْصِيَةِ وَالطُّغْيَانِ، بَلِ الرِّدَّةُ وَالْكُفْرَانُ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْخَاتِمَةِ، وَهَذَا تَوَاضُعٌ مِنْهُ فِي حَقِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِكَمَالِ خَوْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَمَّا رَأَى مِنَ الْفِتَنِ الْعَظِيمَةِ وَوُقُوعِ الْهَالِكِينَ فِيهَا وَإِلَّا فَهُوَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَقَدْ شَهِدَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْجَنَّةِ وَقَالَ: " «رَضِيتُ لِأُمَّتِي مَا رُضِيَ لَهُمْ» " وَأَنَّهُ أَفْقَهُ الصَّحَابَةِ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَلِذَا اخْتَارَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ تَشَهُّدَهُ عَلَى تَشَهُّدِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَيُؤَيِّدُ مَا قُلْنَا قَوْلُهُ: (فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفِتْنَةُ كَالْبَلَاءِ يُسْتَعْمَلَانِ فِيمَا يُدَافَعُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنَ الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ اهـ. وَهُمَا فِي الشِّدَّةِ أَظْهَرُ، وَأَمَّا قَوْلُ الطِّيبِيُّ: لِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا قَدْ أَمِنُوا مِنَ الْفِتْنَةِ. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات: ٣] فَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ (أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ مَاتَ، أَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي " مَاتَ " نَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ. وَقَالَ: (أُولَئِكَ) نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الصَّحَابِيَّ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الَّذِي لَقِيَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَآمَنَ بِهِ وَمَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَأَمَّا مَنْ عَاشَ مِنْهُمْ فَهُوَ فِي خَطَرٍ مِنَ الرِّدَّةِ، سَوَاءٌ آمَنَ بَعْدَهَا أَوْ لَا، فَإِنَّ بِالرِّدَّةِ تَبْطُلُ الصُّحْبَةُ فِي مَذْهَبِنَا (كَانُوا أَفَضَلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ) أَيْ: أُمَّةِ الْإِجَابَةِ وَهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ فَكَانُوا أَفْضَلَ الْأُمَمِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي الذِّهْنِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى انْقِرَاضِ الْعَالَمِ اهـ. أَوْ يُقَالُ: الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَوْجُودِينَ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي وَيَلْزَمُ مِنْهُ الْأَفْضَلِيَّةُ عَلَى سَائِرِ الْقُرُونِ لِحَدِيثِ: " «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» " الْحَدِيثَ. (أَبِرَّهَا قُلُوبًا) أَيْ: أَطْوَعَهَا وَأَحْسَنَهَا وَأَخْلَصَهَا وَأَعْلَمَهَا أَوْ أَكْثَرَهَا إِيمَانًا قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: ١٧٧] الْآيَةَ. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات: ٣] أَيْ ضَرَبَهَا بِأَنْوَاعِ الْمِحَنِ وَالتَّكْلِيفَاتِ الصَّعْبَةِ وَالشَّدَائِدِ الَّتِي لَا تُطَاقُ لِأَجْلِ أَنْ يَخْتَبِرَ مَا عِنْدَهَا مِنَ التَّقْوَى، إِذْ لَا تَظْهَرُ حَقِيقَتُهَا إِلَّا عِنْدَ ذَلِكَ فَوَجَدَهَا مَعَ ذَلِكَ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الِانْقِيَادِ وَالرِّضَا أَوْ أَخْلَصَهَا لِلتَّقْوَى مِنْ قَوْلِهِمْ: امْتَحَنْتُ الذَّهَبَ وَفَتَنْتُهُ إِذَا أَذَبْتَهُ بِالنَّارِ حَتَّى خَرَجَ خَالِصًا نَقِيًّا، أَوْ أَذْهَبَ الشَّهَوَاتِ وَالْحُظُوظَ الدُّنْيَوِيَّةَ عَنْهَا كَمَا قَالَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. (وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا) أَيْ: أَكْثَرَهَا غَوْرًا مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ وَأَدَقَّهَا فَهْمًا وَأَوْفَرَهَا حَظًّا مِنَ

<<  <  ج: ص:  >  >>