وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ الْكَلَامُ الْمُفِيدُ وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا اخْتِيرَ لَفْظُ الْآيَةِ لِشَرَفِهَا، أَوِ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الْحُكْمُ الْمُوحَى إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْمَتْلُوَّةِ وَغَيْرِهَا بِحُكْمِ عُمُومِ الْوَحْيِ الْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ، أَوْ لِأَنَّ كُلَّ مَا صَدَرَ عَنْ صَدْرِهِ فَهُوَ آيَةٌ دَالَّةٌ عَلَى رِسَالَتِهِ، فَإِنَّ ظُهُورَ مِثْلِ هَذِهِ الْعُلُومِ مِنَ الْأُمِّيِّ مُعْجِزَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ، مِنْهَا: التَّحْرِيضُ عَلَى نَشْرِ الْعِلْمِ، وَمِنْهَا: جَوَازُ تَبْلِيغِ بَعْضِ الْحَدِيثِ كَمَا هُوَ عَادَةُ صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ وَالْمَشَارِقِ وَلَا بَأْسَ بِهِ، إِذِ الْمَقْصُودُ تَبْلِيغُ لَفْظِ الْحَدِيثِ مُفِيدًا سَوَاءٌ كَانَ تَامًّا أَمْ لَا. (وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ) . الْحَرَجُ: الضِّيقُ وَالْإِثْمُ وَهَذَا لَيْسَ عَلَى مَعْنَى إِبَاحَةِ الْكَذِبِ عَلَيْهِمْ، بَلْ دَفْعٌ لِتَوَهُّمِ الْحَرَجِ فِي التَّحْدِيثِ عَنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ صِحَّتُهُ وَإِسْنَادُهُ لِبُعْدِ الزَّمَانِ كَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَتَبِعَهُ زَيْنُ الْعَرَبِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ الْمُظْهِرُ وَهُوَ مُقَيِّدٌ بِمَا إِذَا لَمْ نَرَ كَذِبَ مَا قَالُوهُ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ النَّهْيِ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِمَا جَاءَ عَنْهُمْ، وَبَيْنَ التَّرْخِيصِ الْمَفْهُومِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّحَدُّثِ هَاهُنَا التَّحَدُّثُ بِقِصَصٍ مِنَ الْآيَاتِ الْعَجِيبَةِ، كَحِكَايَةِ عِوَجِ بْنِ عُنُقٍ، وَقَتْلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْفُسَهُمْ فِي تَوْبَتِهِمْ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَتَفْصِيلِ الْقِصَصِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ عِبْرَةً وَمَوْعِظَةً لِأُولِي الْأَلْبَابِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّهْيِ هُنَاكَ النَّهْيُ عَنْ نَقْلِ أَحْكَامِ كُتُبِهِمْ لِأَنَّ جَمِيعَ الشَّرَائِعِ وَالْأَدْيَانِ مَنْسُوخَةٌ بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. اهـ. لَكِنْ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَمَا رُوِيَ عَنْ عِوَجٍ أَنَّهُ رَفَعَ جَبَلًا قَدْرَ عَسْكَرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُمْ كَانُوا ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفٍ لِيَضَعَهُ عَلَيْهِمْ، فَنَقَرَهُ هُدْهُدٌ بِمِنْقَارِهِ وَثَقَبَهُ وَوَقَعَ فِي عُنُقِهِ، فَكَذِبٌ لَا أَصْلَ لَهُ كَذَا نَقَلَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَرَوَى الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ بِإِسْنَادِهِ فِي تَنْبِيهِ الْغَافِلِينَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " «حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَتْ فِيهِمْ أَعَاجِيبُ» " ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُ أَيْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «خَرَجَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى مَقْبَرَةٍ فَقَالُوا: لَوْ صَلَّيْنَا ثُمَّ دَعَوْنَا رَبَّنَا حَتَّى يُخْرِجَ اللَّهُ لَنَا بَعْضَ الْمَوْتَى فَيُخْبِرَنَا عَنِ الْمَوْتِ فَفَعَلُوا ذَلِكَ، ثُمَّ دَعَوْا رَبَّهُمْ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذَا رَجُلٌ قَدْ أَطْلَعَ رَأْسَهُ مَنْ قَبَرِهِ وَهُوَ أَسْوَدُ خَلَا شَيْبًا أَيْ بَيَاضُ رَأَسِهِ يُخَالِطُ سَوَادَهُ وَقَالَ: يَا هَؤُلَاءِ مَا أَرَدْتُمْ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ مُتُّ مُنْذُ تِسْعِينَ سَنَةً، فَمَا ذَهَبَتْ مَرَارَةُ الْمَوْتِ مِنِّي حَتَّى كَأَنَّهُ الْآنَ، فَادْعُوا اللَّهَ أَنْ يُعِيدَنِي كَمَا كُنْتُ، وَكَانَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ أَثَرُ السُّجُودِ» . (وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ) ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مَعْنَى كَذَبَ عَلَيْهِ نَسَبَ الْكَلَامَ كَاذِبًا إِلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ أَوْ لَهُ اهـ.
وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ زَعْمُ مَنْ جَوَّزَ وَضْعَ الْأَحَادِيثِ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى الْعِبَادَةِ، كَمَا وَقَعَ لِبَعْضِ الصُّوفِيَّةِ الْجَهَلَةِ فِي وَضْعِ أَحَادِيثَ فِي فَضَائِلِ السُّورِ، وَفِي الصَّلَاةِ اللَّيْلِيَّةِ وَالنَّهَارِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ تَعْدِيَتَهُ بِ " عَلَيَّ " لِتَضْمِينِ مَعْنَى الِافْتِرَاءِ (مُتَعَمِّدًا) : نُصِبَ عَلَى الْحَالِ وَلَيْسَ حَالًا مُؤَكَّدَةً، لِأَنَّ الْكَذِبَ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى عَدَمِ دُخُولِ النَّارِ فِيهِ (فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) : يُقَالُ: تَبَوَّأَ الدَّارَ إِذَا اتَّخَذَهَا مَسْكَنًا وَهُوَ أَمْرٌ مَعْنَاهُ الْخَبَرُ يَعْنِي: فَإِنَّ اللَّهَ يُبَوِّئُهُ وَتَعْبِيرُهُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ لِلْإِهَانَةِ، وَلِذَا قِيلَ: الْأَمْرُ فِيهِ لِلتَّهَكُّمِ وَالتَّهْدِيدِ، إِذْ هُوَ أَبْلَغُ فِي التَّغْلِيظِ وَالتَّشْدِيدِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: كَانَ مَقْعَدُهُ فِي النَّارِ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ ذَلِكَ كَبِيرَةً، بَلْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ: إِنَّهُ كَفَرَ يَعْنِي لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الِاسْتِخْفَافُ بِالشَّرِيعَةِ، وَيُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ قَرَأَ حَدِيثَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَلْحَنُ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي أَدَائِهِ أَوْ إِعْرَابِهِ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، لِأَنَّهُ بِلَحْنِهِ كَاذِبٌ عَلَيْهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ نَقَلَ حَدِيثًا وَعَلِمَ كَذِبَهُ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا لِلنَّارِ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ، لَا مَنْ نَقَلَ عَنْ رَاوٍ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْ رَأَى فِي كِتَابٍ وَلَمْ يَعْلَمْ كَذِبَهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute