الْأَعْلَى، بَلِ الْفَرَحُ بِالْبَقَاءِ وَالدُّخُولِ تَحْتَ الْفَنَاءِ وَالْقُرْبِ مِنَ اللَّاهُوتِ وَالتَّبَرُّؤِ مِنَ النَّاسُوتِ، وَهَذَا مَقَامٌ يَضِيقُ عَنْ إِعْلَانِهِ نِطَاقُ النُّطْقِ وَلَا يَسَعُ إِظْهَارُهُ فِي ظُهُورِ الْحُرُوفِ وَإِنَّ قَمِيصًا خِيطَ مِنْ نَسْجِ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ حَرْفًا مِنْ مَعَانِيهِ قَاصِرٌ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُوَالِيَ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ فَتَحَ عَلَيْهِ بَابَ ذِكْرِهِ، فَإِنِ اسْتَلَذَّ بِالذِّكْرِ فَتَحَ عَلَيْهِ بَابَ الْقُرْبِ، ثُمَّ رَفَعَهُ إِلَى مَجَالِسِ الْأُنْسِ، ثُمَّ أَجْلَسَهُ عَلَى كُرْسِيِّ التَّوْحِيدِ، ثُمَّ رَفَعَ عَنْهُ الْحِجَابَ وَأَدْخَلَهُ دَارَ الْفَرْدَانِيَّةِ، وَكَشَفَ لَهُ حِجَابَ الْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ، فَإِذَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى الْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ بَقِيَ بِلَا هُوَ، فَحِينَئِذٍ صَارَ الْعَبْدُ زَمَنًا فَانِيًا فِي حِفْظِ سَبَحَاتِهِ وَبَرِئَ مِنْ دَعَاوَى نَفْسِهِ (وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ) : أَيِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَالطَّبَقَةِ الْأُولَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَذَكَرَهُ سُبْحَانَهُ لِلْمُبَاهَاةِ بِهِمْ، يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عَبِيدِي يَذْكُرُونِي وَيَقْرَءُونَ كِتَابِي (وَمَنْ بَطَّأَ) : بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ مِنَ التَّبْطِئَةِ ضِدِّ التَّعَجُّلِ كَالْإِبْطَاءِ، وَالْبُطْءُ نَقِيضُ السُّرْعَةِ وَالْبَاءُ فِي (بِهِ) : لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ: مَنْ أَخَّرَهُ وَجَعَلَهُ بَطِيئًا عَنْ بُلُوغِ دَرَجَةِ السَّعَادَةِ (عَمَلُهُ) : السَّيِّئُ فِي الْآخِرَةِ أَوْ تَفْرِيطُهُ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي الدُّنْيَا (لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ) . مِنَ الْإِسْرَاعِ أَيْ: لَمْ يُقَدِّمْهُ نَسَبُهُ، يَعْنِي: لَمْ يُجْبِرْ نَقِيصَتَهُ لِكَوْنِهِ نَسِيبًا فِي قَوْمِهِ، إِذْ لَا يَحْصُلُ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّسَبِ بَلْ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: ١٣] وَشَاهِدُ ذَلِكَ أَنَّ أَكْثَرَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ لَا أَنْسَابَ لَهُمْ يُتَفَاخَرُ بِهَا، بَلْ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ مَوَالٍ، وَمَعَ ذَلِكَ هُمْ سَادَاتُ الْأُمَّةِ وَيَنَابِيعُ الرَّحْمَةِ وَذَوُو الْأَنْسَابِ الْعَلِيَّةِ الَّذِينَ لَيْسُوا كَذَلِكَ فِي مَوَاطِنِ جَهْلِهِمْ نِسْيًا مَنْسِيًّا، وَلِذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الدِّينِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ» " وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ مُحَمَّدٍ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ ائْتُونِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْمَالِكُمْ لَا بِأَنْسَابِكُمْ فَإِنِّي لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا» " وَمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي يَزِيدَ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ أَنَّ مُرِيدًا لَهُ تَتَبَّعَ خُطَاهُ مِنْ خَلْفِهِ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ قَائِلًا: وَاللَّهِ وَاللَّهِ لَوْ سَلَخْتَ جِلْدَ أَبِي يَزِيدَ وَلَبِسْتَهُ لَمْ تَنَلْ مِثْقَالَ خَرْدَلٍ مِنْ مَقَامَاتِهِ مَا لَمْ تَعْمَلْ عَمَلَهُ وَأَنْشَدَ:
مَا بَالُ نَفْسِكَ أَنْ تَرْضَى تُدَنِّسُهَا ... وَثَوْبُ جِسْمِكَ مَغْسُولٌ مِنَ الدَّنَسِ
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا ... إِنَّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ
(رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَرْبَعِينَ: بِهَذَا اللَّفْظِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute