(جَعَلَ امْرَأَتَهُ كَظَهْرِ أُمِّهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: شَبَّهَ زَوْجَتَهُ بِالْأُمِّ، وَالظَّهْرُ مُقْحَمٌ لِبَيَانِ قُوَّةِ التَّنَاسُبِ كَقَوْلِهِ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى» ، وَكَانَ هَذَا مِنْ أَيْمَانِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْكَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: ٢] وَفِي قَوْلِهِ: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: ٢] إِشْعَارٌ بِأَنَّ الظَّهْرَ مُقْحَمٌ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: إِذَا ظَاهَرَ الرَّجُلُ مِنَ امْرَأَتِهِ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَلَا يَجُوزُ لَهُ قُرْبَانُهَا مَا لَمْ يُخْرِجِ الْكَفَّارَةَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَوْدِ فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ هُوَ إِعَادَةُ لَفْظِ الظِّهَارِ وَتَكَرُّرِهِ، وَقِيلَ: هُوَ الْوَطْءُ، وَقِيلَ: هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ أَنْ يُمْسِكَ عَقِيبَ الظِّهَارِ زَمَانًا يُمْكِنُهُ أَنْ يُفَارِقَهَا فَلَمْ يَفْعَلْ، فَإِنْ طَلَّقَهَا عَقِيبَ الظِّهَارِ أَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا عَقِيبَهُ فَلَا كَفَّارَةَ، لِأَنَّ الْعَوْدَ لِلْقَوْلِ هُوَ الْمُخَالَفَةُ، وَقَصْدُهُ بِالظِّهَارِ التَّحْرِيمُ، فَإِذَا أَمْسَكَهَا عَلَى النِّكَاحِ بَعْدَ الظِّهَارِ فَقَدْ خَالَفَ قَوْلَهُ: فَيَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ.
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الظِّهَارُ لُغَةً: مَصْدَرُ ظَاهَرَ وَهُوَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الظَّهْرِ، فَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٌ تَرْجِعُ إِلَى الظَّهْرِ مَعْنًى وَلَفْظًا بِحَسْبِ اخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ. وَفِي الشَّرْعِ: هُوَ تَشْبِيهٌ لِلزَّوْجَةِ أَوْ جُزْءٍ مِنْهَا شَائِعٍ أَوْ مُعَبَّرٍ بِهِ عَنِ الْكُلِّ بِمَا لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنَ الْمُحَرَّمَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَلَوْ بِرَضَاعٍ أَوْ صَهْرِيَّةٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ ذَلِكَ الْعُضْوِ الظَّهْرَ أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا خُصَّ بِاسْمِ الظِّهَارِ تَغْلِيبًا لِلظَّهْرِ ; لِأَنَّهُ كَانَ الْأَصْلُ فِي اسْتِعْمَالِهِ، يَعْنِي قَوْلَهُمْ: أَنْتِ عَلَى كَظَهْرِ أُمِّي، وَشَرْطُهُ: فِي الْمَرْأَةِ كَوْنُهَا زَوْجَةً وَفِي الرَّجُلِ كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ الْكَفَّارَةِ، فَلَا يَصِحُّ ظِهَارُ الذِّمِّيِّ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَحُكْمُهُ: حُرْمَةُ الْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ إِلَى وُجُودِ الْكَفَّارَةِ بِهِ، ثُمَّ قِيلَ: سَبَبُ وُجُوبِهَا الْعَوْدُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: ٣] وَكَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى إِبَاحَةِ الْوَطْءِ بِنَاءً عَلَى إِرَادَةِ الْمُضَافِ فِي الْآيَةِ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ إِرَادَةِ ظَاهِرِهَا، وَهُوَ تَكْرَارُ نَفْسِ الظِّهَارِ، كَمَا قَالَ دَاوُدُ لِلْحَدِيثِ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ عَدَمُ تَعَلُّقِهَا بِتَكَرُّرِهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ سُكُوتُهُ بَعْدَ الظِّهَارِ قَدْرَ مَا يُمْكِنُهُ طَلَاقُهَا اهـ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَ ظِهَارَهَا (حَتَّى يَمْضِيَ رَمَضَانُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ ظِهَارِ الْمُؤَقِّتِ، فَقَالَ قَاضِي خَانْ: لَوْ ظَاهَرَ مُؤَقَّتًا، كَانَ مُظَاهِرًا فِي الْحَالِ، وَاذَا مَضَى ذَلِكَ الْوَقْتُ بَطُلَ لَوْ ظَاهَرَ، اسْتَثْنَى يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَثَلًا لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ ظَاهَرَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا صَحَّ تَقْيِيدُهُ وَلَا يَبْقَى بَعْدَ مُضِيِّ الْعِدَّةِ (فَلَمَّا مَضَى) : وَفِي نُسْخَةٍ مَرَّ (نِصْفٌ مِنْ رَمَضَانَ وَقَعَ عَلَيْهَا لَيْلًا) : أَيْ: جَامَعَهَا فِي لَيْلٍ مِنَ اللَّيَالِي (فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ) : أَيْ: مَا ذَكَرَ مِنَ الْمُظَاهَرَةِ وَالْمُجَامَعَةِ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَعْتِقْ رَقَبَةً، قَالَ: لَا أَجِدُهَا) : أَيْ: عَيْنُهَا أَوْ قِيمَتُهَا قَالَ: (فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ) : لَعَلَّهُ لِكِبَرِ سَنٍّ أَوْ ضَعْفِ بَدَنٍ أَوْ قُوَّةِ جِمَاعٍ، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - جَلَّ جَلَالُهُ {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: ٣] (قَالَ: أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا) : أَيْ: كُلًّا قَدْرَ الْفِطْرَةِ أَوْ قِيمَتَهُ قَبْلَ الْمَسِيسِ كَإِخْوَتِهِ لِمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ (اعْتَزِلْهَا حَتَّى تُكَفِّرَ) : مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، فَيُأْبَى إِجْرَاؤُهُ عَلَى إِطْلَاقِهِ (قَالَ: لَا أَجِدُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِفَرْوَةَ بْنِ عَمْرٍو) : أَيِ: الْبَيَاضِيِّ الْأَنْصَارِيِّ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ، رَوَى عَنْهُ أَبُو حَازِمٍ التَّمَّارُ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَرْوَةُ بِالْفَاءِ الْمَفْتُوحَةِ فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ وَبَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَفِي بَعْضِهَا: عُرْوَةُ، بِالْعَيْنِ الْمَضْمُومَةِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ (أَعْطِهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ بِهَاءِ السَّكْتِ (ذَلِكَ الْعَرَقِ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ وَيُسَكَّنُ (وَهُوَ مِكْتَلٌ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْكَافِ وَفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ (يَأْخُذُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا أَوْ سِتَّةَ عَشَرَ صَاعًا) : وَفِي النِّهَايَةِ: الْعَرَقُ بِفَتْحِ الرَّاءِ: زِنْبِيلٌ مَنْسُوجٌ مِنْ خُوصٍ، وَفِي الْقَامُوسِ: عَرَقُ التَّمْرِ الشَّقِيقَةُ الْمَنْسُوخَةُ مِنَ الْخُوصِ قَبْلَ أَنْ يُجْعَلَ مِنْهُ الزِّنْبِيلُ أَوِ الزِّنْبِيلُ نَفْسُهُ وَيُسَكَّنُ اهـ. وَهُوَ تَفْسِيرٌ مِنَ الرَّاوِي، وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَلِّقِ وَهُوَ: أَعْطِهِ، وَبَيْنَ الْمُتَعَلَّقِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (لِيُطْعِمَ) : أَيْ: هُوَ (سِتِّينَ مِسْكِينًا) : أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الْعَرَقِ، وَالْمَعْنَى أَنْ يَسْتَعِينَ بِهِ وَلَا يَلْزَمُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْهُ لِمَا فِي رِوَايَةِ: (فَأَطْعِمْ وَسْقًا) : وَهُوَ سِتُّونَ صَاعًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ مُرَتَّبَةٌ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : أَيْ: عَنْ أَبِي سَلَمَةَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute